حوار بين جهازي المناعة والضمير في مصر

كنت أسمع دائما أن مصر ستكون بخير, وأتساءل: كيف؟ فيقول الكبار: إن الحكمة مخزونة في الأرض, قد نتأخر أو نتكاسل فيسبقنا الآخرون, ولكننا نعود سريعا, فنتماسك ونخرج من أزمتنا.
وهذا ميراث أصحاب الحضارات العريقة, الحامية لأصحابها, والدافعة إلي التغيير في الوقت المناسب, ليتكيفوا مع المتغيرات, فيمنحوا مجتمعهم قدرة علي مواجهة الحاضر واستشراف المستقبل.
وقد اختبرت تلك الحكمة البسيطة في الأسابيع الماضية, حين استشرف جهاز الضمير في جسم الأمة, مخاطر الجمود والتخلف, فظهرت دعوات متلاحقة حادة النبرة, تطالب بالتغيير, في منولوج داخلي شمل الوطن كله بالنقد, بدءا من الاقتصاد, بعد عجز الموازنة وازدياد الديون الداخلية, واشتعال الأسعار, وانهيار سعر الصرف, وغياب الاستثمار, وهروب الأموال والمستثمرين, وسيادة ثقافة التعثر, نظرا لعدم القدرة علي معالجة هذا الخلل, بسياسات ممتدة, فعادت الحكومة للدوران في حلقة مفرغة, عندما تراجعت عن برامج الإصلاح الاقتصادي.
وتمثل ذلك في زيادة تعيين الموظفين وتكدسهم بلا عمل في دواوين الحكومة, وتجاوز الرقم7 ملايين نسمة, لتصبح بذلك أكبر دولة موظفين في العالم, في حين أنها عندما بدأت برامج الإصلاح, كانت تهدف إلي التقليص, حيث كان العدد لا يتجاوز3,5 مليون عن طريق برامج التحول إلي التخصيص وتشجيع القطاع الخاص علي تحمل مسئولية عملية إنتاج السلع والخدمات, وخلق الوظائف والأعمال, وكانت النتيجة أن القطاع الخاص أصبح متهما, وراح يلملم أشلاءه, ويرمم أخطاءه, ولكن بلا جدوي, وسط مناخ عدائي متزايد, أما أبرز إنجازات القطاع الحكومي فتآكلت, وعادت سياسة الدعم المباشر لإنقاذ محدودي الدخل لتهدد الموازنة بالكامل, وتعود بها إلي أسوأ أوضاعها.
ذلك العجز الذي كنا نعالجه في بداية ومنتصف الثمانينيات, وأول التسعينيات وحتي قبل نهايتها, متجاوزين أخطر مرحلة إصلاح اقتصادي في تاريخ مصر الحديث, حيث تحمل خلالها المجتمع برنامجا قاسيا للإصلاح الاقتصادي, أهل مصر لدخول النادي العالمي للدول القابلة للتكيف مع المجتمع الدولي, وكان يطلق علي مصر النمر القادم إقليميا, ولكن بعد كل ذلك تعود مصر إلي توزيع السلع بالبطاقات التموينية, إحدي نتائج الحرب العالمية الثانية, وأرجو ألا يفهمني أحد خطأ, فأنا لا أنتقد ولكنني أشخص!!
ثم كانت كارثة المونديال, وهي هنا ليست في عدم تأهل مصر أو اختيارها لتنظيم هذا الحدث, ولكن في حصولها علي صفر كبير, فلم يعطنا عضو من الـ24 عضوا صوته, في وقت كانت فيه اللجنة المشرفة عنه تتغني بالملف المصــري, والطفل المعجزة, وعمر الشريف, ود. بطرس غالي, وباقي نجوم الملف والأهرامات المبهرة للعالم, وأعضاؤها يتكلمون بثقة زائدة فصدموا الأمة في كبريائها.
فمصر لم تكن ولن تكون صفرا أبدا, ولكنها في كل الظروف هي رقم صحيح وكبير في المعادلة المحلية والإقليمية والعالمية, ولا يمكن تجاهلها, فكان الشعور العام بضرورة المحاسبة والتغيير حتي نواجه أوضاعنا بشجاعة وقوة.
تلك كانت الصورة التي حركت جهاز الضمير المصري الحي, فطالب بالتغيير, وكانت كلمته قاسية, لأنه يملك المبرر بقوة, لكن ما شغلني بعد ذلك هو أن جهاز المناعة الداخلية تحرك, ولحكمة إلهية خاصة بالتنظيم الداخلي للجسم الإنساني, جعلت الجهازين: المناعة والضمير, هما القوتان الحاميتان للجسم, فهما ليسا جزءا عضويا فقط, لكنهما يحميان الأمة, ومن هنا فإن حيوية جهاز الضمير, وقوة جهاز المناعة تضمنان للوطن تحركا أسلم وأقوي وأقدر, علي تجاوز أي معضلات مهما تكن.
فوجد جهاز المناعة, أن المطالبة بالتغيير بهذا الأسلوب, هي تقليل من مكانتنا ودورنا, ويبدو كأنه تجاوب مع مطلب خارجي, وخوف من تأثيره الضار, مع جمود وتوقف طويل, فكانت التحذيرات المطالبة بالدراسة والتريث.
وفي حقيقة الأمر, فإن الحوار بين جهازي المناعة والضمير كشف لي عن قدر مصر, وقدرتها الدائمة عبر عمرها الطويل, في الحفاظ علي سلامها النفسي وقوتها علي إحداث التغييرات الكبري في تاريخها سلميا, بلا أضرار فادحة علي المجتمع, فالحكمة هنا واضحة, ولا يمكن لأي عقل ناضج أن يتجاهلها لكنني أكاد ألمح في جهاز المناعة خوفا سلبيا, فالأحداث الجسيمة في إقليمنا, ثم التطورات العالمية, تفرض أن يكون إفراز كريات الدم البيضاء كبيرا لدرء الفيروسات, ومنع الفوضي والانهيارات والتدخلات الخارجية, لكن ذلك يجب أن يكون في الحدود المعقولة, ولا يصل إلي حالة مرضية تنعكس علي توازن الجسم الوطني.
فالحالة المصرية الداخلية وصحوة جهاز الضمير صحيحة, وفي مكانها الملائم, فإحداث تغيير مناسب, خاصة في مجال الإصلاح السياسي, ومواصلة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي, هو الخطوة الشجاعة لحماية مصر ودورها ومكانتها, فالتصحيح هنا سيأتي من خلال إصدار تشريعات محددة للإصلاحات, لنكون وطنا للقانون والمؤسسات, وتعود لهذا الوطن صورته المشرقة, كدولة منظمة وحديثة لا يخرج علي قانونها أحد, فالقانون هو عنوان الدولة الحديثة, وإصلاح كل المؤسسات هو عنوان الوطن المتقدم, حتي لا نصبح مرتعا لاحتكارات, وسوق سوداء, وقوانين لا تنفذ فينتشر الغش والفساد.
ولكن التغيير يجب أن يكون في نوعية السياسات, بإنشاء مؤسسات قوية لننضم إلي طوابير المتقدمين, فلا نعود إلي الوراء فنفشل, علي أن يكون التغيير المنشود في الحكومة والمحافظات مرهونا بهذه السياسات, وليس بالأشخاص, فعندما نكون دولة مؤسسات سيصبح تغيير الأشخاص عملية سهلة, وليست صعبة كما نشعر الآن, لأن مصر غنية بأبنائها, هذا التغيير سيظل مرهونا بتحقيق أهداف المجتمع, وهنا يشعر المواطن العادي بأنه مسئول ومشارك, ولكن الجمود يصيب الوطن بتصلب الشرايين, وينعكس علي حالة المواطنين باللامبالاة.
ويبقي أخيرا أن الحوار الإيجابي بين قوي المجتمع, وحيوية جهازي المناعة وضمير الوطن, هو ما يجعلنا واثقين من قدرتنا الموروثة علي تجاوز أزماتنا دون مخاطر كبيرة.