سياســة شـارون.. في الشـوط الأخيـر

مواجهة العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني ليست عملا سهلا, وإذا كان من يقود هذا الإرهاب هو شارون, فالأمر يزداد صعوبة, لأن تاريخه يكفي بألا نثق في كل ما يطرحه من سياسات, فالتجارب أثبتت لنا أنه كان ـ ولايزال ـ مراوغا.
ولكن هذا لا يعني أن نترك أي فرصة لاختبار إرادات السياسة لدي الخصم, خاصة إذا كان قد وصل إلي نهاية المطاف, ولم يصبح أمامه إلا المضي في سياسته, الفاشلة التي جلبت للإسرائيليين المزيد من القتل.
فعمليته الأخيرة في رفح مثال حي علي هذا الفشل, فعنوان المجزرة لم يكن محض مصادفة, ولم يكن رد فعل للأحداث, أو بسبب نجاح المقاومة في تفجير الدبابات, ولكنه كان عملا مدبرا, كرسالة شارونية تقول: إن صاحبها قادر علي وقف المقاومة, ليكون ذلك آخر ما يصدره لنا قبل أن يهرب من غزة, تحت ضربات المقاومة الفلسطينية الذكية.
ولكن الحقيقة دائما سرعان ما تبرق, ولا يمكن إخفاؤها, فشارون في مقابل حاجته الأمنية, يسعي إلي ترميم سياسي داخلي, يقوي قيادته, وترميم خارجي يعيد إليه مصداقيته, ولا يورطه أمام حزبه, أو يظهره كمتراجع عن تعهده, خارجيا, خاصة أمام الولايات المتحدة المصرة علي رؤية تنفيذ وعوده.
وسط هذا المناخ يمكن قراءة عملية رفح, فشارون لإيمانه الراسخ, بأنه وصل إلي النهاية, يري أن الانسحاب من غزة ضرورة, تدفعه إلي المجازفة, ومع عدم إسقاطنا لكن الاحتمالات في أي تبدلات داخلية تذهب بشارون بعيدا, فإن الخطط الإسرائيلية المرتكزة علي بيع الانسحاب من غزة للفلسطينيين والعرب باعتباره إنجازا سياسيا, ليس حقيقيا, فقد جاء في الأساس تعبيرا عن عدم قدرة, بسبب أوضاع داخلية وخارجية, إلا أن الانتهازية واللعب علي الأوتار نقلته من ضفة الأمن إلي السياسة.
ولكن الرؤية الأعمق للفلسطينيين والعرب, ومنهم المصريون بالقطع, يجب أن تستفيد من كل شيء, وتدفع إلي تحقيق المصالح الفلسطينية بلا تردد, فحماية الشعب الفلسطيني عندما تكون هي الهدف, ونحن نملك الرؤية النافذة والقدرة علي فهم المتغيرات, فلماذا الخوف, والطرف الذي يواجهنا قد استنفد كل أغراضه؟
فهو أصبح الآن مكشوفا وعاريا أمام مجتمعه في الداخل لفشله, وأمام العالم الخارجي لأنه استخدم القوة المفرطة ضد شعب أعزل, ولم ينجح في لجم مقاومته, وخرج القوي منهزما عمليا واختبر الفلسطينيون قوة معدنهم وأكدوا مصداقيتهم, وبالتالي فإنه لا خوف من العودة إلي طاولة المفاوضات.
ونحن ندرك تماما أن التفاوض هو الغطاء الأخير لترجمة النصر والصمود الفلسطيني, إلي واقع علي الأرض, خاصة إذا عرفنا أن خبرات العرب والفلسطينيين, أصبحت تجعلهم محصنين بألا يعزفوا علي الأوتار الإسرائيلية, فاستثمار الخطة الشارونية, سياسيا ـ رغم ضعفها ـ سيختبر حكومة شارون, ويكشفها أمام الولايات المتحدة, والرأي العام الإسرائيلي, كما أن هذا لا يلغي المقاومة, فهي قادرة علي تنظيم وتطوير هياكلها, وفي هذا المناخ نستطيع خوض غمار التفاوض, والخوف من مناورات شارون وألاعيبه السياسية يصبح غير مبرر.
فالذين يخشون أن يورط مصر في غزة, يجب أن يدركوا أن هذا مستحيل, فخبرة مصر أكبر مما يتصورون, ولكن الخوف كل الخوف يأتي من التردد وعدم ممارسة الدور, فالفاعلية السياسية, هي التي تكشف المناورات والخديعة, ولن تبقي إلا الحقيقة, وحدها, فالمهمة التاريخية لمصر في حماية الفلسطينيين, وتأمين الانسحاب الإسرائيلي, ليس من غزة وحدها, ولكن من الضفة الغربية, وكل الأراضي المحتلة في عام1967, وصولا لإعلان الدولة, مهمة لا تتوقف, وصعوباتها سوف تزيد مصر قوة, فليس هناك عمل سهل.
ولكن الثقة في النفس والإيمان بالدور يقللان من المخاطر, خاصة إذا كان الهدف تحقيق استقرار للإقليم, ومساعدة في الحد من التطرف العالمي, والقضية الفلسطينية تقف في مقدمة القضايا, وبوقف نزيفها, يستطيع العالم ـ وليس منطقتنا فقط ـ أن يؤمن بأننا علي طريق اجتثاث العنف والتطرف, فالحرب علي الإرهاب علمت الجميع أن الانتصار فيها لن يكون إلا باجتثاث أسبابه.
من الطبيعي, عندما نتعامل سياسيا, في قلب القضية الفلسطينية وعبر مبادرات إسرائيلية صادرة من شارون, أن يكون الموقف مقلقا للجميع, خاصة أنه يستغل الضعف الأمريكي بسبب الغيبوبة الانتخابية, والانحياز الشديد من الرئيس الأمريكي بوش وإدارته اليمينية المحافظة, ولكن قضية السلام الإقليمي والعالمي أكبر من بوش وشارون, وأقول إن أخطاءهما وتلاعبهما بهذه القضية, سوف تضعفهما, أما القدرة السياسية للطرف العربي والفلسطيني فتقوي من عدالة القضية, وتكشف الطرف الذي يتلاعب بها.
وهذا لن يتحقق إلا بالضغط السياسي, مع تقوية الفلسطينيين, وإعادة بناء قواعدهم السياسية والاقتصادية والأمنية, مع استمرار الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني, علي أن تتمسك الفصائل الفلسطينية بالمرجعيات السياسية, وأن يظل الطرف الفلسطيني منظما وفاعلا جاهزا للإصلاح.
ولن ينكر أحد أهمية الدور المصري الكبير الآن لتقوية الفلسطينيين في تعاملهم مع إسرائيل, سواء عالميا مع الأمريكيين والأوروبيين, أم إقليميا مع إسرائيل نفسها, ومنذ اندلاع الانتفاضة في28 سبتمبر عام2000, ومصر تواصل دورها بلا كلل, مع معرفتها بصعوبة الطريق والهدف,ولكن القضايا القومية لا تحتمل التردد أو الخوف من الفشل رغم احتمالاته الكبيرة.
وسوف يذكر العرب والفلسطينيون الدور المصري الحالي, في حماية غزة, من خلال تدريب الأمن الفلسطيني وتأمين الانسحاب الإسرائيلي من القطاع, وكل هذا يتم من أجل الفلسطينيين, تمهيدا لدولتهم المرتقبة.
ولعل هذا الدور الإقليمي البارز, يشحذ همم المجتمع الدولي والولايات المتحدة لإدراك أهمية القضية الفلسطينية للاستقرار العالمي, ويدفع القمم الدولية المتتالية بدءا من قمة الدول الصناعية الثماني الكبري في جورجيا, والناتو في أسطنبول وصولا إلي الاتحاد الأوروبي, لكي تضع جميعا قيام الدولة الفلسطينية في قائمة الأولويات العالمية للإصلاح في الشرق الأوسط.