مقالات الأهرام اليومى

سياســة شـارون‏..‏ في الشـوط الأخيـر

مواجهة العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني ليست عملا سهلا‏,‏ وإذا كان من يقود هذا الإرهاب هو شارون‏,‏ فالأمر يزداد صعوبة‏,‏ لأن تاريخه يكفي بألا نثق في كل ما يطرحه من سياسات‏,‏ فالتجارب أثبتت لنا أنه كان ـ ولايزال ـ مراوغا‏.‏

ولكن هذا لا يعني أن نترك أي فرصة لاختبار إرادات السياسة لدي الخصم‏,‏ خاصة إذا كان قد وصل إلي نهاية المطاف‏,‏ ولم يصبح أمامه إلا المضي في سياسته‏,‏ الفاشلة التي جلبت للإسرائيليين المزيد من القتل‏.‏

فعمليته الأخيرة في رفح مثال حي علي هذا الفشل‏,‏ فعنوان المجزرة لم يكن محض مصادفة‏,‏ ولم يكن رد فعل للأحداث‏,‏ أو بسبب نجاح المقاومة في تفجير الدبابات‏,‏ ولكنه كان عملا مدبرا‏,‏ كرسالة شارونية تقول‏:‏ إن صاحبها قادر علي وقف المقاومة‏,‏ ليكون ذلك آخر ما يصدره لنا قبل أن يهرب من غزة‏,‏ تحت ضربات المقاومة الفلسطينية الذكية‏.‏

ولكن الحقيقة دائما سرعان ما تبرق‏,‏ ولا يمكن إخفاؤها‏,‏ فشارون في مقابل حاجته الأمنية‏,‏ يسعي إلي ترميم سياسي داخلي‏,‏ يقوي قيادته‏,‏ وترميم خارجي يعيد إليه مصداقيته‏,‏ ولا يورطه أمام حزبه‏,‏ أو يظهره كمتراجع عن تعهده‏,‏ خارجيا‏,‏ خاصة أمام الولايات المتحدة المصرة علي رؤية تنفيذ وعوده‏.‏

وسط هذا المناخ يمكن قراءة عملية رفح‏,‏ فشارون لإيمانه الراسخ‏,‏ بأنه وصل إلي النهاية‏,‏ يري أن الانسحاب من غزة ضرورة‏,‏ تدفعه إلي المجازفة‏,‏ ومع عدم إسقاطنا لكن الاحتمالات في أي تبدلات داخلية تذهب بشارون بعيدا‏,‏ فإن الخطط الإسرائيلية المرتكزة علي بيع الانسحاب من غزة للفلسطينيين والعرب باعتباره إنجازا سياسيا‏,‏ ليس حقيقيا‏,‏ فقد جاء في الأساس تعبيرا عن عدم قدرة‏,‏ بسبب أوضاع داخلية وخارجية‏,‏ إلا أن الانتهازية واللعب علي الأوتار نقلته من ضفة الأمن إلي السياسة‏.‏

ولكن الرؤية الأعمق للفلسطينيين والعرب‏,‏ ومنهم المصريون بالقطع‏,‏ يجب أن تستفيد من كل شيء‏,‏ وتدفع إلي تحقيق المصالح الفلسطينية بلا تردد‏,‏ فحماية الشعب الفلسطيني عندما تكون هي الهدف‏,‏ ونحن نملك الرؤية النافذة والقدرة علي فهم المتغيرات‏,‏ فلماذا الخوف‏,‏ والطرف الذي يواجهنا قد استنفد كل أغراضه؟

فهو أصبح الآن مكشوفا وعاريا أمام مجتمعه في الداخل لفشله‏,‏ وأمام العالم الخارجي لأنه استخدم القوة المفرطة ضد شعب أعزل‏,‏ ولم ينجح في لجم مقاومته‏,‏ وخرج القوي منهزما عمليا واختبر الفلسطينيون قوة معدنهم وأكدوا مصداقيتهم‏,‏ وبالتالي فإنه لا خوف من العودة إلي طاولة المفاوضات‏.‏

ونحن ندرك تماما أن التفاوض هو الغطاء الأخير لترجمة النصر والصمود الفلسطيني‏,‏ إلي واقع علي الأرض‏,‏ خاصة إذا عرفنا أن خبرات العرب والفلسطينيين‏,‏ أصبحت تجعلهم محصنين بألا يعزفوا علي الأوتار الإسرائيلية‏,‏ فاستثمار الخطة الشارونية‏,‏ سياسيا ـ رغم ضعفها ـ سيختبر حكومة شارون‏,‏ ويكشفها أمام الولايات المتحدة‏,‏ والرأي العام الإسرائيلي‏,‏ كما أن هذا لا يلغي المقاومة‏,‏ فهي قادرة علي تنظيم وتطوير هياكلها‏,‏ وفي هذا المناخ نستطيع خوض غمار التفاوض‏,‏ والخوف من مناورات شارون وألاعيبه السياسية يصبح غير مبرر‏.‏

فالذين يخشون أن يورط مصر في غزة‏,‏ يجب أن يدركوا أن هذا مستحيل‏,‏ فخبرة مصر أكبر مما يتصورون‏,‏ ولكن الخوف كل الخوف يأتي من التردد وعدم ممارسة الدور‏,‏ فالفاعلية السياسية‏,‏ هي التي تكشف المناورات والخديعة‏,‏ ولن تبقي إلا الحقيقة‏,‏ وحدها‏,‏ فالمهمة التاريخية لمصر في حماية الفلسطينيين‏,‏ وتأمين الانسحاب الإسرائيلي‏,‏ ليس من غزة وحدها‏,‏ ولكن من الضفة الغربية‏,‏ وكل الأراضي المحتلة في عام‏1967,‏ وصولا لإعلان الدولة‏,‏ مهمة لا تتوقف‏,‏ وصعوباتها سوف تزيد مصر قوة‏,‏ فليس هناك عمل سهل‏.‏

ولكن الثقة في النفس والإيمان بالدور يقللان من المخاطر‏,‏ خاصة إذا كان الهدف تحقيق استقرار للإقليم‏,‏ ومساعدة في الحد من التطرف العالمي‏,‏ والقضية الفلسطينية تقف في مقدمة القضايا‏,‏ وبوقف نزيفها‏,‏ يستطيع العالم ـ وليس منطقتنا فقط ـ أن يؤمن بأننا علي طريق اجتثاث العنف والتطرف‏,‏ فالحرب علي الإرهاب علمت الجميع أن الانتصار فيها لن يكون إلا باجتثاث أسبابه‏.‏

من الطبيعي‏,‏ عندما نتعامل سياسيا‏,‏ في قلب القضية الفلسطينية وعبر مبادرات إسرائيلية صادرة من شارون‏,‏ أن يكون الموقف مقلقا للجميع‏,‏ خاصة أنه يستغل الضعف الأمريكي بسبب الغيبوبة الانتخابية‏,‏ والانحياز الشديد من الرئيس الأمريكي بوش وإدارته اليمينية المحافظة‏,‏ ولكن قضية السلام الإقليمي والعالمي أكبر من بوش وشارون‏,‏ وأقول إن أخطاءهما وتلاعبهما بهذه القضية‏,‏ سوف تضعفهما‏,‏ أما القدرة السياسية للطرف العربي والفلسطيني فتقوي من عدالة القضية‏,‏ وتكشف الطرف الذي يتلاعب بها‏.‏

وهذا لن يتحقق إلا بالضغط السياسي‏,‏ مع تقوية الفلسطينيين‏,‏ وإعادة بناء قواعدهم السياسية والاقتصادية والأمنية‏,‏ مع استمرار الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني‏,‏ علي أن تتمسك الفصائل الفلسطينية بالمرجعيات السياسية‏,‏ وأن يظل الطرف الفلسطيني منظما وفاعلا جاهزا للإصلاح‏.‏

ولن ينكر أحد أهمية الدور المصري الكبير الآن لتقوية الفلسطينيين في تعاملهم مع إسرائيل‏,‏ سواء عالميا مع الأمريكيين والأوروبيين‏,‏ أم إقليميا مع إسرائيل نفسها‏,‏ ومنذ اندلاع الانتفاضة في‏28‏ سبتمبر عام‏2000,‏ ومصر تواصل دورها بلا كلل‏,‏ مع معرفتها بصعوبة الطريق والهدف‏,‏ولكن القضايا القومية لا تحتمل التردد أو الخوف من الفشل رغم احتمالاته الكبيرة‏.‏

وسوف يذكر العرب والفلسطينيون الدور المصري الحالي‏,‏ في حماية غزة‏,‏ من خلال تدريب الأمن الفلسطيني وتأمين الانسحاب الإسرائيلي من القطاع‏,‏ وكل هذا يتم من أجل الفلسطينيين‏,‏ تمهيدا لدولتهم المرتقبة‏.‏

ولعل هذا الدور الإقليمي البارز‏,‏ يشحذ همم المجتمع الدولي والولايات المتحدة لإدراك أهمية القضية الفلسطينية للاستقرار العالمي‏,‏ ويدفع القمم الدولية المتتالية بدءا من قمة الدول الصناعية الثماني الكبري في جورجيا‏,‏ والناتو في أسطنبول وصولا إلي الاتحاد الأوروبي‏,‏ لكي تضع جميعا قيام الدولة الفلسطينية في قائمة الأولويات العالمية للإصلاح في الشرق الأوسط‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى