مقالات الأهرام اليومى

ماذا بعد قمة تونس؟

لم يكن حظ قمة تونس التي عقدت أمس‏,‏ أفضل من القمة المؤجلة السابقة‏,‏ من حيث المناخ الساخن‏,‏ ففي الثانية كان استشهاد رموز المقاومة الفلسطينية‏,‏ وفي مقدمتهم الشيخ أحمد ياسين‏,‏ أخاذا للبصر وللعقول‏,‏ أما في الحالية‏,‏ فمازلنا‏,‏ وسنظل مشدودين‏,‏ إلي ما جري في غزة ورفح‏.‏

فلم يكتف الإسرائيليون بهدم البيوت‏,‏ وقتل المدنيين والأطفال والنساء والمجازر في حق الفلسطينيين‏,‏ عبر الثلاثة أعوام ونصف العام هي عمر الانتفاضة‏,‏ وهو الشعب الأعزل إلا من الإرادة والابتكار في المقاومة‏,‏ وأخيرا أقدمت إسرائيل علي الأخطر والأكثر وحشية‏,‏ وهو طائرات تطلق الصواريخ علي مظاهرة مدنية للأطفال والنساء‏,‏ في مشهد كشف عن عمق الكراهية‏,‏ وعري إسرائيل أمام المجتمع الدولي‏,‏ الذي تحرك أخيرا‏.‏

وجاء القرار‏1544‏ الصادر من مجلس الأمن ليدين إسرائيل إدانة واضحة‏,‏ بسبب ارتكابها جريمة حرب في رفح‏,‏ وعلي القمة العربية الاستفادة مما جري في مجلس الأمن‏,‏ فبالرغم من امتناع أمريكا عن التصويت‏,‏ فإنها لم تستخدم حق النقض الفيتو لصالح إسرائيل‏,‏ وذلك للمرة الأولي منذ سنوات‏,‏ وعلينا إدراك هذا التغير النوعي لصالح الفلسطينيين والمطالبة بحماية دولية لهم‏,‏ ووضع تصور عربي نابع من القمة وتقديمه للمجتمع الدولي متمثلا في أكبر منظماته‏,‏ الأمم المتحدة‏,‏ وتقديمه أيضا لقمتي الدول الثماني الصناعية الكبري‏,‏ وحلف الناتو‏,‏ اللتين ستعقدان في يوليو المقبل‏.‏

هذا علي الصعيد الفلسطيني عشية القمة العربية‏,‏ أما علي الصعيد العراقي‏,‏ فهو لا يقل قتامة وبشاعة‏,‏ حيث صور الوحشية الأمريكية في التعامل مع المسجونين والأسري العراقيين بمعتقل أبوغريب‏,‏ تأخذنا وتلفنا بحزن عميق‏,‏ ونعايشها‏,‏ وننتظر ما يلوح لنا من العاصمة واشنطن في‏30‏ يونيو المقبل‏,‏ أي نقل السلطة للعراقيين‏,‏ وسط فوضي شاملة يندفع إليها العراق‏,‏ فيقتل رئيس مجلس الحكم الانتقالي‏,‏ عز الدين سليم‏,‏ الشيعي الهادئ‏,‏ والكاتب معتدل الرؤية‏,‏ والذي كان ينتظر أن يلملم الأغلبية العراقية الشيعية بوعي‏,‏ وتبصيرها بعد مقتل رجلين آخرين من طائفته علي نفس منواله وعقله‏,‏ هما السيدان عبدالمجيد الخوئي‏,‏ ومحمد باقر الحكيم‏.‏

أما الذي يختار القتل منهجا وأسلوبا‏,‏ فيدفعنا نحو الفوضي‏,‏ ليكون هناك مجتمع بلا عقل‏,‏ وهذا الشخص القاتل يدفعه جنود الاحتلال وسط مجموعات من المهووسين بالانتقام والثأر والاستئصال‏,‏ فيندفعون هؤلاء بدورهم نحو معارك المدن المقدسة بلا رحمة أو روية‏,‏ ليقفوا علي أرضية المتطرفين‏,‏ الذين اتخذوا الذبح أسلوبا‏,‏ في مشهد عبثي لا نظير له‏,‏ قد تنضم فيه الجموع خوفا من بطش القوة والاحتلال‏,‏ ليلوذوا بحضن بن لادن والزرقاوي‏,‏ فيصبح العراق أفغانستان أخري‏,‏ ومصنعا للإرهابيين‏,‏ وبدلا من صدام وجماعته نقع في مستنقع آخر لا يقل بشاعة وقبحا‏,‏ فنصبح جميعا أسري اختيارات مرفوضة‏,‏ إما احتلال بغيض أو حروب أهلية لا تتوقف‏.‏

وفي هذا المناخ تجتمع القمة العربية الدورية بعد تأجيل لمدة شهرين‏,‏ ومع إفرازات عربية‏,‏ تزداد قتامة وخوفا من المجهول‏,‏ فالقضية الفلسطينية تتلاعب بها القوة الكبري في إطار ضعفها أمام إسرائيل‏,‏ فهي تعطي تعهدات مكتوبة لشارون‏,‏ وتعهدات مكتوبة أيضا للعرب‏,‏ بينما هي غير قادرة علي اتخاذ قرار‏,‏ ولعل ضعفها يتجلي أمام أي مراقب بوضوح‏,‏ عندما ظهرت غير قادرة علي التصويت علي قرار لمجلس الأمن‏,‏ يطالب بعدم هدم بيت غزة ورفح‏,‏ وحماية المدنيين الفلسطينيين‏.‏

أما قمة تونس‏,‏ فليس لديها الكثير لكي تحققه‏,‏ في ظل مخاوف عربية كبيرة‏,‏ ويجب أن نعذر الجميع‏,‏ فهم صاروا تحت رحمة النيران‏,‏ وفي أتون الحرب‏,‏ ولكن سوف يحسب للمصريين والتونسيين‏,‏ وقادة المغرب العربي والشام تحديدا‏,‏ أنهم لبوا الدعوة‏,‏ وكانوا علي مستوي المسئولية‏,‏ وأرادوا عقد قمة ناجحة‏,‏ تكون أداة لدفع التعاون العربي المشترك‏,‏ وشاركهم الخليج العربي‏,‏ واليمن بتردد بعض الشيء‏,‏ لكنهم جميعا كانوا حاضرين‏,‏ فتوازنت القمة في حساباتها بدقة‏,‏ وإذا أحسنا التقدير‏,‏ فستكون خطوة صحيحة نحو تطوير لنظام عربي‏,‏ يتماشي مع التغييرات العالمية‏.‏

وإذا كانت الحالة الراهنة في المنطقة والعالم تسيطر علينا‏,‏ فيجب أن نكون واقعيين‏,‏ ولا نري في الاجتماعات بديلا عن العمل العربي المشترك‏,‏ فالجميع حولنا يتغيرون ويكونون نظمهم السياسية‏,‏ بينما منطقتنا وحدها هي التي تتعرض لحروب ومخاطر وانتهاكات‏,‏ وأصبحت نموذجا يحكي عن الفشل الاقتصادي والسياسي‏,‏ وذلك أعطي المبرر للقوي الخارجية‏,‏ لكي توجه إليها اتهاما صريحا بالمسئولية المباشرة عن خروج هذه الجماعات الإرهابية‏,‏ وتناست هذه القوي الأسباب الخارجية التي جعلت المنطقة العربية في وضع لا تحسد عليه‏.‏

ولكنني أري في سرعة استجابة الأنظمة العربية لمبادرات الإصلاح‏,‏ والسير في طريق السلام في فلسطين‏,‏ وإنهاء الاحتلال في العراق‏,‏ وتعميق علاقات المنطقة بالعالم جميعا‏,‏ خطوات إيجابية يجب التمسك بها‏,‏ وأمامنا نماذج حية استطاعت أن تكون نبراسا للمتغيرات‏,‏ ففي جنوب إفريقيا سلم البيض الحكم للسود‏,‏ وتجاوز عنصرا الأمة عن أخطائهما ليبنيا بلدهما معا‏,‏ أما في الهند‏,‏ فقد شهدنا سونيا غاندي‏,‏ تهزم اليمين‏,‏ ويعترف بالهزيمة‏,‏ وتختار رئيسا للوزراء من السيخ‏,‏ وليس من الهندوس‏,‏ فتتغير الهند‏,‏ ويتوسع الاتحاد الأوروبي‏,‏ وتتغير أوروبا الشرقية‏,‏ وتصبح جزءا من النظام العالمي اقتصاديا وسياسيا بأسرع وأعمق منا‏.‏

أما العرب فيتقدمون‏,‏ وإن كان بخجل‏,‏ نحو التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي‏,‏ ووقف الحروب الإقليمية‏,‏ والتسوية السياسية‏,‏ وبناء منظومتهم الإقليمية‏,‏ وهو أمر بات ضروريا لبقائهم‏,‏ وأعتقد أن الظروف صارت مهيأة الآن‏.‏

ولعل ما يدعونا إلي هذا التفاؤل هو أن العرب استطاعوا أن يحافظوا علي منظومة تعاونهم‏,‏ ويعملوا علي تطويرها‏,‏ وأمامهم برامج وخطط ومنظمات اقتصادية واجتماعية جديدة‏,‏ وهم لم يتوقفوا رغم الأزمات والحروب الطاحنة والمخاطر السياسية والعسكرية العميقة والتهديدات القاسية والضعف الداخلي‏,‏ ولعل وقف منحني الانهيار‏,‏ يعني بداية جديدة يتغير فيها مسار المنحني صاعدا‏.‏
دعونا نأمل خيرا‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى