..الجريمــة.. والمحاكمــة.. والاعتـــذار

حمل إلينا الوضع في العراق كثيرا من المآسي والخوف معا, فقد كشفت الجريمة الكاملة ــ التي ارتكبتها أجهزة المخابرات, والسجانون الأمريكيون في سجن أبوغريب, ثم المعاملة نفسها من البريطانيين في البصرة ضد العراقيين ـ إزالة قشرة حضارية تتخفي تحتها كل عناصر الهمجية والكراهية.
فعندما تظهر في صورتها المرعبة, بلا رتوش, ويكشفها الإعلام, نري الغزاة, وقد انقلبوا علي أنفسهم, في قلب مناخ حرب غير مشروعة, ضد شعب لم يحارب الأمريكيين, الذين كانوا قد ذهبوا لحربه تحت دعاوي مختلفة, تبدأ من إنقاذه إلي تحريره, فإذا بهم يسلبونه, ويعاقبونه علي جرائم لم يرتكبها, ويسومونه كل صنوف العذاب, ثم تجيء الصور الفاضحة لتكشف كامل المهزلة الإنسانية, عندما يستأسد السجان علي مسجونيه, وهم تحت رحمته, لا يملكون شيئا, ولتضع المجرمين أمام أنفسهم عراة, وإذا بالقوة العسكرية تصبح نقمة كبري علي صاحبها وتكشف المرضي والساديين.
أما أوصاف الجريمة, فلم يستطع بوش أو رامسفيلد إخفاءها, وإن كان المخطط أو المهندس وولفويتز, قد اختفي, وكأنه تبخر هربا من الكارثة, ولكنه بالقطع كأحد المحرضين الكبار, لن تنساهم المحاكمات مع صاحبيه ريتشارد بيرل ودوجلاس فايث, فإن أمريكا سوف تضعهم في مكانهم الصحيح, وهو ليس أمام محكمة الضمير الإنسانية فقط, إنما في مزبلة التاريخ, فقد كشفت محاكمة الكونجرس المبدئية لوزير الدفاع,أنه استهان, ليس بالجريمة وحدها, عندما عرف بها منذ منتصف يناير, ولم يتحرك, ولكنه استهان برئيسه, والكونجرس والمؤسسات الأمريكية, واستهان أكثر, بكل منظمات حقوق الإنسان, واللجنة الدولية للصليب الأحمر, التي حثت الحكومة الأمريكية منذ هذا التاريخ علي التدخل لحماية نزلاء السجون والأسري, هكذا انكشف زعيم المحافظين الجدد, ووقف أمام مؤسسات بلاده ضعيفا وهو المتعجرف, والذي يتصور أنه انتصر في معركتين في أفغانستان والعراق, فأي انتصار هذا!!
فهل كان هناك في الشرق أو الغرب من يراهن علي أن هناك قوة عسكرية في العالم تستطيع أن تقف ضد الجيش الأمريكي؟! فهذا الانتصار كان تحصيل حاصل, بعد أن تحول إلي هزيمة, فأمريكا التي حصلت علي دعم العالم, بعد أحداث11 سبتمبر2001, هي نفسها اليوم التي تقف عاجزة أمام الشعور بالكراهية, مما يهدد مصالحها دوليا, ويدفعها مرة أخري إلي العودة إلي حدودها والانكفاءعلي نفسها, وباتت مهددة بأن تخسر اعتراف العالم بأنها القوة الكبري الصالحة لإدارته, بما تتمتع به من قيم حضارية وأخلاقية, وديمقراطية, فهي اليوم تدخل اختبارا عميقا, فكيف ستستطيع أن تحاصر التيار, الذي دفعها إلي السير في هذا الطريق المظلم؟
إن بوش وإدارته الراهنة في محك تاريخي خطير, فهل يطهر نفسه, ويتخلص من رامسفيلد ورجاله, وهل يستطيع أن يفعل ذلك في وسط المعركة, خاصة أن اليمينيين الذين دفعوا أمريكا إلي( مكارثية جديدة) لن يسلموا بسهولة, ومع ذلك دعونا نقف أمام عدد من المتغيرات المهمة في الموقف الأمريكي:
* يجب أن تكون حاجة الرئيس الأمريكي, إلي مخاطبة الرأي العام العربي, محل تقدير, لأنه يشير إلي شعور جاد بالذنب من الجريمة, وبالتالي فإن هناك سياسات جديدة أو روحا مختلفة للتغيير, وكان لقاؤه مع الأستاذ إبراهيم نافع والأهرام, أكثر من ممتاز, واعتذر من خلاله علي الأحداث المؤسفة في العراق, ووعد بالتحقيق ومجازاة المجرمين, وأكد علي نيات طيبة, ولكن هذه النيات تحتاج إلي فعل علي الأرض, يغير الصورة الراهنة, ويشرح كيف يمكن قيام الدولة الفلسطينية المرتقبة, بل ويعدل ويصحح وعده الذي قدمه إلي شارون, وإذا كانت الأقوال مؤثرة, فإن الأفعال ستكون أكثر تأثيرا.
* وهذا التأثير لن يحدث إلا عندما يري الرأي العام العربي, الذي احترمه بوش وخاطبه صحفيا وتليفزيونيا, تحقيقات فعلية, تقدم المجرمين للمحاكمة وتعزل قادتهم, وتقدم وجوها جديدة للحكم تتسم بالاعتدال وتحترم كل الثقافات, ويري تغييرا في معاملة العراقيين, ثم نقل السيادة لهم, فلا تتسلط عليهم قوات محتلة, تريد أن تكون بديلا للديكتاتورية, وعندما تصحح الإدارة الأمريكية أخطاء ما بعد الاحتلال, بإلغاء الجيش والحكومة والشرطة, وتسريح الجميع في الشوارع, بحجة اجتثاث البعثيين حتي ترضي بعض عراقيين قدموا مع الاحتلال من الخارج ولا يرغبون إلا في تصفية الحسابات, علي حساب المصداقية, والتي سيدفع ثمنها الأمريكيون من تاريخهم ومستقبلهم!
*.. وعلي الأمريكيين أن يحترموا الدولة العراقية, بكل طوائفها سنة وشيعة وأكرادا وتركمان وغيرهم, وألا يغذوا الفتن بين الطوائف, ويحافظوا علي الدولة بدون تفكيك أو ضعف وألا يجعلوا الطائفية أساسا للحكم, فدولة القانون يجب أن تسود, وألا يكون التغيير في العراق علي حساب تصفية وجهه العربي المسلم, حتي يغيب الوجه القبيح للاحتلال ومناصريه ومن يريدون دفع العراق إلي خصومة مع نفسه ومع محيطه.
*.. فمن أخطأ الأمريكيون أنهم أشاعوا الكراهية والعقد النفسية لتتحكم في أسلوب التعامل مع الشعب العراقي, وظهر ذلك عندما تركوا الدولة تسقط, بينما كان العراقيون يريدون إسقاط النظام فقط, ولهذا السبب ضاعت الأموال العراقية واختفت مؤسساتهم وسرق تاريخهم وبددت متاحفهم, وانهارت جامعاتهم, ومدارسهم, وساد حياتهم الغموض والخوف, فلماذا ترك الاحتلال العراق يتردي إلي حافة الفوضي, فالحرب الأهلية والخوف أصبحا حقيقتين واضحتين لأي مراقب, فهل تردي الوضع, وانهياره هو الرسالة التي كانت أمريكا تريد إرسالها لشعوب الشرق الأوسط؟!
لكن الذين يعرفون أمريكا ــ التي كشفت جريمة المتطرفين, والذين عذبوا السجناء, ونشرت الصور علي الرأي العام, وتحاكم رامسفيلد ورفاقه الآن ــ مازالوا يتصورون أن الأمريكيين قادرون علي التصحيح, ومعالجة الوضع المزري.
إلا أن بعض الأمريكيين, خاصة من في يدهم القرار يريدون لنا أن نري الوجه الأمريكي القبيح, الذي يغذي التطرف ويقوي الإرهابيين, ويدفعنا جميعا للمجهول.
.. فأي أمريكا سنري؟