قمة الإصلاحين.. وأمريكا

حتي لا نطلق الكلمات الكبيرة, دون إدراك لمعناها, فلن نقول إن قمة تونس العربية هي قمة الحسم, فالوقت مازال مبكرا للحكم عليها, حتي لو انتهت القمة باتفاق جماعي حول البرنامجين اللذين تتبناهما وهما:إصلاح النظام العربي أو منظومة الجامعة العربية, ثم إطلاق مبادرة الإصلاح العربي علي المستوي القطري, ذلك أن البيانات والاتفاقات لا تكفي وحدها, ولكن القدرة علي تنفيذها علي أرض الواقع.
وكثيرا ما مر العرب بقضايا فارقة, وخرجوا منها باتفاقيات, لم تر حظها من التنفيذ علي الإطلاق, وأذكر المهتمين بالشأن العربي, بالأوضاع عشية حرب الخليج الثانية في التسعينيات, حيث كانت الرغبة الخليجية في التغيير عارمة, وطالبت بالتعاون مع الدولتين اللتين لعبتا الدور الرئيسي في إنجاح التحالف الأمريكي ـ العربي في ذلك الوقت, وحققتا الهدف, وهو تحرير الكويت, أعني( مصر وسوريا) وكانت الدولتان قد انضمتا إلي ما عرف باسم إعلان دمشق, ولكن الاتفاق لم يفعل سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا, وظل حبرا علي ورق, ومجرد اجتماعات للوزراء المعنيين بصورة دورية, وبقي الموقف هكذا محلك سر, دون فعل حقيقي, وخسر مهندسا الاتفاق رؤيتهما, وظل الشأن العربي كما هو, قبل أزمة غزو الكويت عام1990, وظلت منظومة دول الخليج تنسق فيما بينها في تعاون اقتصادي, والآن دخلت مسارات مختلفة في علاقاتها الأمريكية, فالتنسيق بين دولها والقوة العظمي أصبح متفاوتا, ودخل في صراع وسباق علي تقوية علاقاتها الأمريكية, علي حساب العلاقات فيما بينها, أو بين منظومتها الإقليمية.
هذه المواقف السياسية في حاجة إلي إعادة نظر, لأننا في عالم لا يرحم, فالكل سوف يدفع ثمنا غاليا, فإذا كنا نطالب الأمريكيين بإنهاء إزدواجية المعايير في علاقاتهم ما بين العرب والإسرائيليين, فإننا نطالب العرب أيضا بالتخلص من ازدواجية اللغة والتفكير في علاقاتهم معا, فلا يمكن أن يقبلوا بالشيء ونقيضه!!.
وقمة تونس ستكون شاهدا حيا علي إفلاس سياسات قديمة, وأصبحت في حاجة ماسة إلي التجديد, فما تم الاتفاق عليه من إصلاح منظومة الجامعة العربية, وظهور مؤسسات جديدة للعمل العربي المشترك, لن تكون حية, إلا بالفعل الحقيقي, والاتفاق الخلاق, وذلك حتي نجعل الاتفاق علي الورق حقيقة علي الأرض, لأن هناك نظاما عربيا موازيا, يتمثل في وجود الرأي العام العربي الموحد, والتفاعل الجماهيري مع القضايا العربية, والرغبة العارمة في التعاون خاصة في القضايا الاستراتيجية في فلسطين والعراق, والحرب ضد الإرهاب, حتي المنظومة الثقافية, في الكتب والفضائيات, وتبادل السلع والخدمات, مع ذلك فإن النظام العربي لم يرتق إلي مستوي الشارع العربي, وظل يحكمه نوع من التنافس الخفي, لا يعبر عن نفسه إلا في الحجرات المغلقة, فالخوف من التعاون العربي ـ العربي دفين وقديم, وعادة ما يكون محكوما بعناصر خارجية, ترجع إلي معرفة دقائق وأسرار السياسات الأمريكية والغربية واتجاهاتها. وإذا كان لا يوجد عاقل يرغب في أن تكون السياسات العربية ضد التعاون مع الولايات المتحدة أو أوروبا أو غيرها, فإننا نرغب أيضا في تعاون جماعي بين النظام العربي وبين العالم يحافظ علي الحقوق العربية, حتي لا نترك كل قطر عربي بمفرده تحت ضغط علاقات قوي عالمية, أمريكية أو أوروبية, لا تحقق التوازن العربي, فإذا دخلنا في تنافس فردي في علاقاتنا مع العالم, فسوف نكون جميعا في موقف ضعيف.
والمبادرتان اللتان تطلقهما قمة تونس بإصلاح الجامعة العربية, ثم مبادرة إصلاح عربي نابع من الداخل, سوف تحققان الحد الممكن للحفاظ علي المصالح العربية, علي أن تكونا نقطتي البداية في المفاوضات مع الأمريكيين والأوروبيين, في محاولتهما لإنشاء كيان إقليمي أكبر من المنطقة العربية, لا يحول العرب إلي أقلية فقط, بل يفرض عليهم هيمنة قوة إقليمية, ظللنا في صراعات وحروب معها لسنوات طويلة, ولم يحدث إلي الآن اتفاق علي شكل إنهاء الصراع معها, خاصة في القضية الفلسطينية, فهناك مبادرة عربية للسلام لا تلقي قبولا إسرائيليا, وهناك معركة قاسية يخوضها الشعب الفلسطيني ضد قوة عسكرية غاشمة, تحظي بدعم أمريكي, وصل إلي حد الاستهانة, ليس بالأنظمة العربية فقط, إنما بالرأي العام العربي, فبعد استخدام أمريكا للفيتو ضد قرار يدين العمل الإجرامي باغتيال أحمد ياسين( وهو شيخ مسن ومقعد) ينخرط في العمل السياسي ويتبني قضايا شعبه, أصيب الوجدان الشعبي العربي بالإحباط, وشعر بأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي لا سبيل لإنهائه, وأنه سيتجدد بطرق مختلفة, وأدرك الجميع أن تقييم الأمريكيين للأوضاع العربية خاطيء, ويتحكم فيه عقل يميني متطرف وفاشي, وعاجز عن فهم سياسي واقعي للمنطقة, فهذا التصرف, سيكون تأثيره كبيرا علي مستقبل التعاون العربي ـ الأمريكي, حتي إن الكثيرين من المعتدلين في إسرائيل يرون في هذه السياسة إشارات خاطئة, بالرغم من أن الوقت كان مناسبا لترسل أمريكا إشارة واحدة للشارع العربي وللحكام في إسرائيل, بأنها ستبدأ سياسة جديدة للخروج من المأزق الراهن ولكن هذا لم يحدث, فماذا نفعل مع يمين متحجر رفض تلك الإشارة؟ إنه بهذا الموقف لن يخرب العلاقات العربية ـ الأمريكية الرسمية فقط, بل سيعمق الجراح الشعبية, ويضع حواجز حقيقية في النفوس ليس من السهل تجاوزها, حتي ولو وقفت الحكومات العربية عاجزة عن التعبير, وحواجز الشعوب أخطر وأصعب وأكثر مرارة.
ولكننا لن نكون متشائمين, فحركة الرأي العام العالمي, ستدفع نحو التغيير, ونشير إلي ما حدث في أسبانيا, وإلي قوي الجناح المعتدل في أمريكا وتماسكه في مواجهة سياسات تندفع نحو الحرب, وقبل ذلك, كنا ومازلنا نبحث عن تعاون عربي ـ عربي, أكثر تماسكا ووضوحا وقوة, يراعي التعاون الإقليمي مع القوي الرافضة للعنف والتطرف والحروب.