مبادرة مكتبة الإسكندرية

يبدو أن مكتبة الإسكندرية قد اكتشفت دورها أخيرا, ووجدت ضالتها في أن تلعب دورا مركزيا في إدارة عملية الإصلاح الشامل, خاصة السياسي منه, فالمكتبة في عصرنا لم تعد مجموعة من الكتب المرصوصة علي الأرفف أو قاعات بحث فاخرة, بل دور.
فالمؤتمر الذي عقد في رحابها تحت رعاية الرئيس حسني مبارك, كان علامة بارزة, فقد اتسمت الأوراق والأبحاث المنبثقة عنه, بالعلمية, وشجاعة التعبير, وطالبت بضرورة الإصلاح, علي أن ينبع من قلب المجتمع نفسه, ويوجه من خلال قوي داخلية للمجتمعات.
ولم تكتف الدراسات والأوراق بالمطالبة بالإصلاح فقط, ولكنها أوضحت وسائل بنائه عبر تهيئة مناخ ملائم للمجتمع المدني, ووضع أطر قانونية تحكمه, فالمهم هو أن تكون دولة القانون هي السائدة بالفعل, بتفعيل القوانين, إن كانت موجودة, أو تشريعها إن لم تكن موجودة.
وفرقت أوراق المؤتمر بين مؤسسات المجتمع المدني المختلفة, ووضعت حدودا بين المختصة, منها بالتنمية, وتلك التي تعمل علي زيادة الوعي العام أو المؤسسات الرقابية, أو المؤسسات الاجتماعية, ثم صاغت طريقة لتنشيط هذا المجتمع عبر الفحص الاستراتيجي, والضوابط المالية الحاكمة له, حتي تكتسب مؤسساته مصداقية, كما تطرقت أوراق المؤتمر أيضا إلي ضرورة إيجاد مناخ سياسي قائم علي الشفافية والمساءلة, وحرية التعبير والمشاركة واللامركزية.
ولم تغفل دراسات جماعة مكتبة الإسكندرية الإصلاح الاقتصادي.
أما الإصلاح الثقافي فقد احتل جانبا مهما, فالواقع يكشف عن أن جميع الإصلاحات يستحيل صياغتها دون تحول جذري في التوجه الثقافي للأفراد والمجتمعات علي السواء, ومناقشة الخطاب الإبداعي والتعليمي والعلمي والإعلامي والديني, مع وضع تصور للنهوض بالخطاب الديني, لمواجهة تيارات استثمار الدين للأهداف السياسية.
تذكرت هذا الدور الذي تقوم به مكتبة الإسكندرية, بعد أن أعدت قراءة الأوراق, واسترجعت المناقشات في ذهني فترسخت في يقيني حيوية مصر, وقدرتها في الوقت المناسب علي إيجاد فريق من النخبة لإدارة الأزمات لصالح المجتمع كله وهي حيوية متكررة في تاريخنا.
فبعد هزيمة1967, أعاد الرئيس عبدالناصر, بشجاعة, تصحيح الأوضاع, وصياغة المجتمع بروح جديدة, تجلت في ثلاث سنوات عظيمة قبل رحيله, مهدت لتماسك المجتمع في مواجهة الهزيمة, وكانت تلك السنوات مقدمة لظهور الرئيس السادات, الذي قاد بدوره مجموعة النصر في أكتوبر1973, ثم قام بمبادرة خلاقة وسابقة لعصرها في عام1977, للسلام الإقليمي, فأحدثت هزة في البنيان الإقليمي, ولكن مصر أو المنطقة, لم تستطيعا أن تجنيا ثمارها نظرا لمتاعب ظهرت في أعقاب هذه الهزة الإيجابية.
وكان علي مصر في سنوات الثمانينيات وما بعدها أن تصوغ بنية سياسية واقتصادية قوية في محاولة جادة قادها الرئيس مبارك لتحديث مصر في كل المجالات, ففتح بابا واسعا للحرية, وانتشار الرأي, في مقدمة لبناء نظام ديمقراطي حقيقي, يقوم علي تفاعل حي للمؤسسات والأحزاب النشيطة, والمجتمع المنظم الذي لا ينزلق إلي الفوضي, ولا تراهن فيه القوي الرافضة للتغيير, والديمقراطية, علي الردة والعودة إلي الوراء, لأن المجتمعات, التي تتسارع فيها وتيرة التغيير دون مشاركة جماهيرية واسعة أو وجود بنية أساسية تقوم عليها دعامات التغيير المرتقب, إما أن تنزلق إلي الفوضي, أو تعود إليها الديكتاتوريات, راكبة قطار مواجهة هذه الفوضي وذلك التطرف.
لكن ما يجب أن يكون في ذهن من يعرف مصر وخصائصها أن يدرك أن الفوضي والردة خطران كبيران علي شعوبنا, ولن تتسامح معهما الأجيال القادمة, وسوف تحاسب من يمهد لهما الأرض, ولا يقف ضدهما بسياسات جديدة خلاقة.
ولعلنا لا نبالغ, إذا قلنا إن قدر الرئيس مبارك, قد منحه دورا تاريخا جديدا, يضاف إلي أدواره السابقة في بناء مصر الحديثة, بدءا من صياغته للنظامين السياسي والاقتصادي في مصر, وحمايته والمنطقة من الانزلاق إلي دوامات الفوضي والردة, إلي العمل علي إقامة السلام الإقليمي لكل شعوب المنطقة, في محاولة منه لحماية الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني, ثم الوقوف ضد احتلال العراق, والمطالبة بحريته وسيادته, في الوقت الذي يجتث فيه جذور الإرهاب والتطرف محليا وإقليميا, بأسلوب علمي, متدرج, لا يخرج علي القوانين الشرعية وحقوق الإنسان, وهو الآن يمنع التدخل الخارجي في شئوننا لحماية الإصلاحات التي نقوم بها, ويرشد سياسات القوي الكبري, ويحاول شرح المخاطر التي قد تكتنف هذه السياسات المتسرعة, والمبنية علي أفكار يغيب عنها عمق المعرفة بشعوب المنطقة وأسرارها الدقيقة وتاريخها الكامن, فهي منطقة قديمة, ومهد لكل الأديان السماوية, وتعيش فيها وحولها الأساطير الموروثة.
ونقول ببساطة هنا إن إصلاحات وسياسات الرئيس مبارك تتسم بالحكمة, وبعد النظر والوطنية المخلصة والصادقة, وقد اختبرناه دائما, فوجدناه الزعيم الوطني المخلص, الذي يستحق التفاف الجميع حوله, حتي نبني نظاما سياسيا قويا, ودولة خلاقة ومبدعة, نمنع بها الضعف والترهل والتدخل في شئوننا.
فيا كل المتنافسين أدركوا, بعمق البصيرة, طبيعة المرحلة, وبعدها السياسي الذي نكاد ندخله, وأمسكوا بالفرصة الثمينة, ولا تندفعوا وراء المجهول, لنجعل مصر وطنا قويا متحررا, وديمقراطيا, وانبذوا المكاسب الصغيرة, قصيرة النظر, فالرؤية الأعمق والأصوب, والتجرد الخلاق جميعا, هو ما سوف يحسب لنا الآن.