الإصلاح.. بالمبادرات..!!

دخلت منطقتنا العربية منعطفا جديدا وصعبا, قد لا يدفعها إلي الإصلاح الحقيقي, الذي قد يتحول علي أيدي البعض إلي شعار, وذلك بإصدار مبادرة وراء أخري, فالكل الآن يتسابق في إصدار مبادراته الخاصة, وكأنه يغسل يديه أو يفرغ الإصلاح من مضمونه بمبادرة تشغل البال.
فالمبادرة الأمريكية المسماة بـ الشرق الأوسط الكبير أعقبتها مبادرات أوروبية, من ألمانيا وبريطانيا, أما دول المنطقة هي الأخري, فوجدت أنه من العيب أن تنتظر سياسات ومبادرات من الخارج فتعاقبت علي إصدار مبادرات, ووعد بعضها بتقديم مبادرة أيضا في المستقبل, حتي إن بعض القوي السياسية, وجدت فرصتها في إثبات الوجود السياسي أو نفاق المبادرات الخارجية بتقديم واحدة, ونحن لا نريد هنا أن نكون مثل عواجز المبادرات, ونتهكم علي حروب البادية لنا, لكن ننبه إلي مخاطر الانزلاق إلي هذه اللغة, فمن يريد التغيير الحقيقي, سوف يدرك مخاطره, ويصبح مشغولا أكثر بإدارته, فالوقت الصعب والحساس يدفع العارفين, ومن أيديهم في النار, إلي تقديم برنامج محدد للإصلاح الداخلي وتفادي المخاطر, كما ينبغي عليه أن يحدد النقاط التي يحتاج فيها إلي التعاون الدولي بدقة ووضوح, ولا يعني ذلك أن يتحصن البعض أو الكل في داخل مبادراته الذاتية.
فما طرحه الأمريكيون والأوروبيون ليس كله خطيئة أو مرفوضا, ولكنه يحتوي علي مخاطر ونواقص, فهو لا يمكن أن يصلح لعمل حقيقي أو فعال دون مشاركة من الداخل, فالعمل الإصلاحي لا ينجح بدون أن يدرس الأرض التي يقف عليها, كما أن المبادرات المحلية لا تصيب هدفها دون مراعاة الأبعاد الخارجية التي تتحرك ضمن سياقها.
والمنعطفات الإقليمية الراهنة تعجل بتقديم رؤية جديدة, فإذا لم تحدث, سوف تصاب المنطقة ليس بكارثة حقيقية فقط, إنما قد تنتقل مقاليد إدارتها إلي أيدي خارجية, ومنها تحدث, بالقطع, الفوضي لسنوات عديدة مقبلة, ولكن الأمم الحية تأخذ من الصعوبات باعثا علي اليقظة وتغليب عوامل الحياة والتجديد علي الموت أو الهروب, وفي اللحظات الحرجة يخرج المخزون القومي من متون الكتب أو الدراسات الموجودة, ليصبح واقعا عمليا.
والحالة الراهنة تفرض تعاون الجميع معا لرسم خريطة للمرحلة المقبلة, تؤكد قدرتنا علي الفهم والتعلم والانتقال إلي مراحل متقدمة تتناسب مع المتغيرات الحالية.
أما التغيير الذي ننتظره فله مستويان, الأول: هو وجود منظومة للعمل العربي المشترك, وقد تظهر بوادرها في قمة تونس في نهاية هذا الشهر, أما أن ترسم هذه القمة سياسة جديدة للمنطقة العربية, وتقدم للشعوب العربية جامعة مختلفة لا تحتكر العمل العربي, بل تنظمه وتؤكد بوضوح علي استمرار تعاون عربي, اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا, أو عليها أن تكتب شهادة وفاتها, حتي لا نتصور أن هناك منظومة للعمل العربي المشترك, وهي فاقدة المضمون والقدرة, وقد تظهر المتغيرات المأمولة في أسلوب تعامل العرب مع الأزمات الراهنة, أو لو شئنا الدقة, الكوارث التي نعيشها, فكيف سيتعاملون مع قضية الشعب الفلسطيني مثلا, الذي يشعر بأن قضيته ماتت وأصبحت لعبة دولية, وأن العرب تركوه وحده يواجه مصيره المحتوم, دون مساعدة مباشرة أو إقليمية أو عالمية دفاعا عن مستقبله, والتعامل مع هذه القضية بالغ التعقيد والصعوبة, ومع ذلك يجب أن يكون هناك وفد سياسي, ليس ليذهب إلي واشنطن أو حتي إلي إسرائيل, ولكن لكي يتفرغ لإدارة ومساعدة الفلسطينيين اقتصاديا وسياسيا.
أما قضية العراق, فهي متروكة أيضا, رغم وجود آلية للدول المجاورة لمساعدة العراق, وهنا يجب أيضا أن يتشكل وفد علي مستوي القمة, يشارك ويتفاوض مع المحتلين, لحماية مستقبل العراق وشعبه, قبل أن تقع الحرب الأهلية ويتردي العراق إلي ما هو أكثر, وإلي جانب هاتين الأزمتين, فإن قضايا التعاون لا تصبح ضرورة هنا فقط بل حتمية, لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أما المستوي الثاني, للتصحيح والتغيير, فهو الإصلاح القطري الداخلي, وهذا هو الآخر يحتاج إلي روح مختلفة ومبادرة جديدة, تفرض سياسات للإصلاحين الاقتصادي والسياسي, تكون المشاركة والانفتاح محورهما علي العالم الخارجي, بلا خوف, بل بعمل حقيقي, وفي هذه الحالة, فالحركة الاستباقية العربية, ستحمي المنطقة, بدلا من أن نتركها للغير يديرها, فتندفع في مسارات بعيدة, ولحظتها ندخل في مناطق وعرة, يتحول العرب فيها إلي فرادي في إقليم واسع, لا يشكلون فيه غالبية, ولن يكونوا قادرين علي تحمل تبعات ما يحدث, وهنا يجب ألا نترك قرار الإصلاح, ليصبح في أيدي الآخرين أو نكون الأضعف في المنطقة.
وليكن واضحا, أن رياح التغيير لم تهب علي المنطقة فقط, بعد سقوط بغداد في2003, ولم تبدأ بعد أحداث11 سبتمبر2001, ولا بعد سقوط برلين عام1989 فقط, إنما عندما تم استيعاب أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفيتي السابق في السوق العالمية, والتي تمت عبر مخطط مبادرة هلسنكي عام1975, ونجح هذا المخطط في مساعدة تلك الدول للانضمام إلي المنظومة الدولية.
وأخيرا فإن الظروف الراهنة, ستجعل من المبادرات, الأمريكية والأوروبية والمشروعات العربية للمبادرات مادة خاما لسياسات الشرق الأوسط الكبير, وإذا لم تقم الدول العربية بدورها المأمول في عمليات الإصلاح والتغيير, فإن المخاطر ستتفاقم, وستجعل الأجيال الراهنة والمقبلة تدفع ثمنا غاليا عندما يحين وقت التغيير الحتمي.
وهنا نأمل في أن تكون قدرتنا علي قراءة المتغيرات دقيقة واضحة, لنتقدم الصفوف, ونطرح رؤيتنا للتغيير, والمشاركة بلا خوف أو تردد, لأننا لسنا الرجل المريض, فما نملكه من قدرات سيشكل رؤية مختلفة, تحمي بلادنا, ومنطقتنا من الفوضي أو من التدخل الخارجي.