أبعاد إلغاء الحبس في قضايا النشر

يبدو الصحفيون أكثر من غيرهم هم المعنيين بشكل مباشر بقرار الرئيس مبارك بإلغاء عقوبة الحبس في جرائم النشر, لأنهم أول المستفيدين, ولكن الحقيقة والمغزي وراء هذا الحدث المهم هو أن الصحفيين خاصة أو الإعلاميين بشكل عام, لا يعملون لحسابهم, ولكنهم ممثلون لرأي عام, يسعي إلي أن يعرف وأن يتحصن بالمعرفة, حتي تزداد مشاركته وفعاليته في اتخاذ القرار سياسيا كان أم اقتصاديا.
وكان من غير الطبيعي في مجتمع يسعي للحرية ويكرس لمعناها, أن يكون الصحفيون ضحايا لمهنتهم أو أن يعملوا وأيديهم مرتعشة, ويتسلط عليهم هاجس الحبس, فجاء قرار الرئيس ليس هدية للصحفيين وغيرهم ممن ينشر رأيه في الصحف وفي وسائل الإعلام فقط, ولكن للمجتمع الذي يسعي إلي الحرية التي هي اللبنة الأولي لعملية الإصلاح السياسي وزيادة مشاركة المواطنين في حكم بلادهم.ونحن في مصر في السنوات الأخيرة كان من أبرز نجاحاتنا أننا فتحنا الباب واسعا للحرية, وأصبح كل مواطن من حقه أن يجاهر برأيه, وأن يتكلم بصوت عال ومسموع في كل المنتديات, ولا يدفع أحد ثمنا للرأي أو للحرية, ولم يعد للتقارير السرية للأجهزة أو غيرها تأثير في الاختيارات أو الترقي, ولكن ارتفعت إلي حد ما معايير الكفاءة, والقدرة, وظهرت في بلدنا صحف متعددة الآراء والاتجاهات, وأصبحت الحرية كما نقول علي الرصيف ولكن كل ذلك كان يشوبه هاجس استمرار الحبس في قضايا النشر, وحتي نكون أمناء, فلم تكن تلك العقوبة مطبقة علي نطاق واسع, ولكنها كانت موجودة وظلالها تظهر بين الحين والآخر, فجاء القرار الأخير, وأحدث تأثيرا سحريا مس شغاف الإعلاميين والصحفيين حتي إن المهتمين بقضايا الإصلاح السياسي يرون أنه خطوة هائلة لها مغزاها علي المستقبل السياسي لبلدنا, جاءت متزامنة مع ظهور المجلس الأعلي لحقوق الإنسان بتشكيله المميز وبشخصياته المؤثرة, التي تعني لدي المهتمين أنهم بإمكانياتهم وبقدرتهم سوف يستطيعون أن يحدثوا تغييرا ملموسا في مسار أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
إذا كانت الحرية للصحافة وللنشر سوف تتسع ويزداد تنوعها وقدرتها في ظل مناخ سياسي يؤازرها ويطالب كل فرد بالمشاركة في إطار من المسئولية والحماية, كذلك فإن هناك حصانة للإنسان كبيرا كان أم صغيرا, تضمنها مؤسسات قوية وتصونها مؤسسة قضائية تكبر وتتنوع وتزداد قدرتها يوما بعد الآخر, كما أن هناك تطويرا هائلا للمؤسسة القضائية تجلي في فصل القضايا الأسرية عن الجنائية, وخفف من ثقلها علي الجهات القضائية, مع سرعة حل الخلافات والمنازعات عن طريق التخصص القضائي الذي هو سمة العصر, وهناك أيضا أنواع من التحكيم الاقتصادي جاءت هي الأخري لحسم سرعة التقاضي في القضايا.
لو تأملنا كل ذلك لاكتشفنا أن تلك التطورات تصب في إقامة بنية أساسية قوية للنظام السياسي في مصر, تؤهله للانتقال إلي مرحلة جديدة علي أسس متينة البنيان من التشريعات والقوانين, والأهم هو رؤية تلك المؤسسات التي تجعل تلك التشريعات والحركة السياسية الدؤوب تكريسا للديمقراطية في المجتمع المصري وتتم برعاية أسس قوية لا تسمح بالردة, كما لا تسمح بالفوضي, وهما ــ الردة والفوضي ــ من أبرز أعداء مجتمع الحرية والديمقراطية.
هذه المتغيرات لا يجب التقليل من شأنها, فالديمقراطية لا تصنعها الكلمات أو الشعارات, فهي تحتاج إلي الكثير من العمل والقليل من الخطابة, وتبني خطوة بعد الأخري, وعلينا أن ندرك أن بنية النظام السياسي هي الأخطر من بنية النظام الاقتصادي, لأنه تحتاج إلي تضافر مجتمعي, وحركة مؤسسات, وتلك هي صعوباتها إذ من الممكن أن تملك برلمانا ومجلسا للشوري ويكونان غير مؤثرين لأن نظامهما الانتخابي, وطريقة اختيارهما تجعلهما فريسة لقوي تتحكم فيهما وتجعلهما مثل الأواني الفارغة, موجودة ولكنها غير مؤثرة, ولا تستطيع أن تتقدم أو تتحرك لتكون أداة للتغيير والبناء السياسي, بل تنتظر قرارات من أعلي ورؤية فوقية, إذا كان المجتمع لا يملك قدرة علي الاختيار أو الانتخاب النزيه أو أن يفرز العناصر الأصلح.
هذا هو ما نحذر منه كما نحذر ونشير إلي أن التدخل الخارجي في شئون المجتمعات لإقامة أنظمتها السياسية يشكل مخاطر كبيرة, قد تجعل مجتمعاتنا في شكل أضعف وأسوأ, وأكثر تضررا, ونحن في هذه المرحلة الدقيقة يجب أن نتحصن بأكبر قدر من الحركة والدأب والاستمرارية في عمليات الإصلاح السياسي, وأن ندرك أن عمليات الإصلاح الاقتصادي تدفع وتقوي الإصلاحات الأولي وأن الإصلاحين لا غني عنهما, فهما مرتبطان إلي حد كبير, فالبناء المؤسسي يحتاج إلي تقوية حرية الرأي والرأي لا يكون حرا ولا يظهر إلا عبر مؤسسات حية وخلاقة وقوية, الأمر الذي يجعلنا نفكر بجدية في كيفية تطوير المؤسسات الصحفية والإعلامية, وأن ندرك أنه بالرغم من أهمية ونوعية هذه المؤسسات, فهي تحتاج إلي ضخ مزيد من الأموال, وأن تنقل ملكيتها للشعب, وأن تكون شركات ومؤسسات متخصصة ومتينة فكما يقولون في كل العالم, فإن الخصخصة هي طريق التقدم الاقتصادي لأنها تقسيم للعمل بين الحكومة والشعب, الحكومة تنظم وتقنن والشعب ينتج السلع والخدمات, ولا يمكن أن تنجح سياسات الإصلاح الاقتصادي بدون خصخصة أدوات الرأي, حتي تظهر مؤسسات إعلامية قوية ومتطورة.
تلك هي الخطوات التي تساعد علي إنجاح عمليات الإصلاح السياسي وتدفعها إلي الأمام بإشاعة ثقافة الحوار والمشاركة والديمقراطية وحقوق الإنسان.