مقالات الأهرام اليومى

انهيار عمارة حي مدينة نصر إلي أين؟

كان لطف الله مع القاهريين‏,‏ قبل عيد الأضحي المبارك ــ كل عام وأنتم بخير‏,‏ ووقانا الله كل الشرور ــ فجاءت كارثة عمارة مدينة نصر الكائنة في أكثر شوارعها ازدحاما ومرورا‏,‏ وهو شارع عباس العقاد‏,‏ في حدها الأدني للضحايا‏,‏ فقد كان من الممكن‏,‏ بل من السهل أن تتطور وتتفاقم ويضيع فيها الكثيرون‏.‏
ولكنني أكرر أن لطف الله وعنايته كانت معنا‏,‏ قبل الحذر والعمل الجدي‏,‏ وحتي نكون منصفين‏,‏ فيجب أن نشيد بشجاعة وسرعة تصرف الأجهزة والمسئولين‏,‏ لحظة وقوع الكارثة مباشرة‏,‏ وتلك طبيعة مصرية كامنة‏,‏ وهي أن بلدنا وشعبنا قادرون علي الإنجاز الصعب‏,‏ عندما يلوح الخطر‏,‏ ووقت الكوارث والمحن‏,‏ فتحشد القوي وتظهر معادننا وقوتنا الكامنة وتتجلي‏,‏ وتحاصر هذه المحن‏,‏ ويبدأ الالتفاف والتضامن الكبير بين الجميع‏,‏ وينطلق التعاون المتضافر بروح إنسانية ووثابة لدي المصريين‏,‏ تعايش الضحايا‏,‏ وكأنهم من أسرهم‏,‏ وتلك روح تضامنية أصيلة في شعبنا‏.‏

وحتي نكون أكثر صراحة مع أنفسنا‏,‏ فإن كوارثنا ومحننا دائما ما يكمن وراءها إهمال كبير‏,‏ منتشر وزائد علي الحد‏,‏ وينذر بكوارث أكبر في حال استمراره‏,‏ بدون مواجهة حادة وسياسات متكاملة‏,‏ والصورة الراهنة هي أن حال القاهرة ــ العاصمة المصرية ــ وصلت إلي مرحلة من التردي بعد أن تركناها دون حسم أو مواجهة‏,‏ وكأنه ليس هناك مسئولون عنها‏,‏ أو أننا وصلنا إلي حالة عصية علي العلاج والإصلاح‏,‏ واكتشف المسئولون عنها أنها صارت أكبر منهم‏,‏ ولا يستطيعون مواجهتها نظرا لتشابكاتها الضخمة‏,‏ أو لعدم القدرة علي المواجهة‏,‏ فآثروا أن يتركوها للتداعيات‏,‏ وخطورة ذلك‏,‏ أن كوارث العاصمة المزدحمة بالعمارات الشاهقة‏,‏ والشوارع المكتظة‏,‏ تكون مدوية ومكلفة‏,‏ حال وقوعها‏,‏ والأخطر أنها تنتقل سريعا بين المواطنين وتصيبهم بالذعر والخوف‏.‏ وحتي لا نشتت أنفسنا وتتوه الحقيقة‏,‏ فإننا سوف نركز حول قضيتين ظاهرتين للعيان‏,‏ تحديدا في شكل ومضمون الشوارع والعمارات ومختلف بنايات القاهرة‏,‏ فقد احترفنا تحويل الأنظار عن قضايانا الملحة‏,‏ وإغفال المخاطر‏,‏ حتي يمكن الالتفاف حولها‏,‏ وتمييعها‏,‏ لتبرير المواقف المتخاذلة‏,‏ والهروب ضعفا وعدم قدرة علي اتخاذ القرار المناسب لإنقاذ الحياة في القاهرة في الوقت المناسب‏.‏ فهل يمكن أن نتصور وجود عمارة سكنية في شارع مثل عباس العقاد بازدحامه المعروف عنه‏,‏ ويتم أسفلها تخزين أنابيب البوتاجاز ومخزن للمواد البلاستيكية دون وجود أجهزة إطفاء ذاتي‏,‏ وبالطبع عندما تشتعل النيران في شارع بهذا الوصف ليس له نظير في القاهرة‏,‏ تستمر مشتعلة‏,‏ فتعجز أجهزة الإطفاء عن إخمادها حتي تتحول النيران إلي قنبلة تمتد إلي خرسانات العمارة‏,‏ فتدمرها‏,‏ وتحولها إلي ركام‏,‏ لتصبح رمزا حيا أمام كل العابرين والساكنين في مدينة نصر‏,‏ وغيرها‏,‏ فيتخيلون ما يمكن أن تصبح عليه كل بناياتنا في لحظة‏,‏ نتيجة لأسباب تراكم الإهمال وعدم الجدية وتنفيذ القوانين‏.‏ فهذه العمارة عينة لمعظم بنايات مدينة نصر‏,‏ التي أشارت أحكام القضاء أكثر من مرة إلي المخالفات الجسيمة التي صاحبت بناءها‏,‏ لأن مخالفات البناء في مدينة نصر هي الأصل‏,‏ ولم تنج من هذه المخالفات إلا أعداد قليلة جدا من البنايات التي أقيمت في السنوات الأولي لظهور حي مدينة نصر‏,‏ وأصحابها يلومون أنفسهم الآن لأنهم لم يخالفوا ويبنوا الأبراج الكبري‏,‏ ثم يذهبون للتصالح ودفع الغرامات‏,‏ مثل الأغلبية الكبيرة التي حولت الحي إلي غابة من الأسمنت‏,‏ أصبحت غير آمنة بل وتهدد الجميع‏,‏ بل إن الكارثة سوف تمتد إلي المنطقة التاسعة والعاشرة‏,‏ والتي كان البناء مقصورا فيها علي أربع طوابق فقط‏,‏ فتظهر بين الحين والآخر بينها أبراج شاهقة‏,‏ ويتساءل الجميع كيف بنيت ومن أعطي هذه التصاريح‏,‏ وكيف‏,‏ لأن الأحياء ومسئوليها وصلوا إلي حالة من انعدام الضمير وغياب الشفافية‏.‏

فوصلت عمليات البناء في هذا الحي إلي حالة تشير إلي الجريمة بوضوح‏,‏ ويتساءل الناس أين الدولة والمحافظة؟ هل أصبحت لا تستطيع فرض القانون؟ وأصبح كل فرد من حقه أن يبني بدون الرجوع إلي أحد‏,‏ أم أن الرشوة والفساد أصبحا القاعدة الحاكمة لعمل الأحياء‏,‏ وأصبحت الأجهزة الأكبر‏,‏ غير قادرة علي حصرها أو متابعة حركة الشوارع؟ وتلك مصيبة أكبر‏.‏ وما نستطيع أن نشير إليه‏,‏ هو أن السـيد محافــظ القاهـرة د‏.‏عبدالرحيم شحاتة‏,‏ عليه أن يزور هذا الحي ليس زيارة عابرة‏,‏ ولكن زيارة عمل مكثفة ويصطحب معه الأجهزة الرقابية لتري وتسمع كيف تدار عملية البناء في ذلك الحي‏,‏ ولكن بعد هذه الكارثة أصبحت الدعوة مفتوحة لنظرة معمقة من سيادة المحافظ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه‏,‏ في الأحياء التي لا تتقاعس عن القيام بدورها فقط‏,‏ بل الأخطر أنها تشوه الإنجازات والعمل الكبير الذي تقوم به الدولة والمحافظة في هذه المنطقة‏,‏ وأقصد مدخل القاهرة من ناحية مدينة نصر‏,‏ الذي أصبح مميزا ونموذجا للعمل الجيد‏,‏ وكذلك سوق السيارات‏,‏ الذي أقيم في هذه المنطقة لخدمة القاهرة‏,‏ فهذان العملان الرائعان قد يضيع أثرهما أمام الناس عقب هذا الحادث الذي يشير إلي الإهمال وغياب الحكومة عن متابعة عمليات البناء وضبط قواعدها عبر محليات واعية بعيدة عن الفساد والرشوة‏,‏ اللذين ضربا حي مدينة نصر‏,‏ فأصبح يعاني بدءا من التكدس والبناء العشوائي زحاما لا نظير له‏,‏ جعل الخروج منه‏,‏ والدخول إليه عملية صعبة ومرهقة تحتاج إلي ساعات طويلة ومجاهدة صعبة تبدد الوقت‏,‏ إضافة إلي معاناة الناس من التدهور السريع الذي يصيب الخدمات ــ وللأمانة لم تصل إلي حد الأزمة إلي الآن‏,‏ ولكنها في طريقها لذلك ــ إذا استمرت الأوضاع الحالية في هذا الحي بدون تدخل علي مستوي عال ودراسة دقيقة ومتينة واتخاذ قرارات حاسمة علي أساسها‏.‏ وللعلم فإن بنايات مدينة نصر‏,‏ أو شوارعها ليست وحدها في الدائرة‏,‏ إنما القاهرة كلها‏,‏ رغم الاستثمارات الكبيرة‏,‏ التي توجه إليها‏,‏ وتقع في الدائرة من الحظر‏,‏ وتحتاج إلي مسئولين‏,‏ يدركون الكوارث الناجمة عن هذا التدهور في حال البناء والشوارع المكدسة بكل المركبات بأكثر من طاقتها‏.‏ إننا نبحث عن قوانين قادرة علي التنفيذ‏,‏ وقرارات ومسئولين قادرين علي العمل في أجواء صعبة‏,‏ ليقدموا لنا كل يوم قرارا أو موقفا آو موقفا جديدا‏,‏ يرتقي بحالنا إلي الأفضل‏,‏ ويطور إدارتنا‏,‏ ويشير إلي قدرتنا علي التغيير بدأب مستمر‏,‏ فهل نجد وهل يستطيعون؟ فالاستثمارات أو الأموال لا تغير الأحوال وحدها‏,‏ فنحن نحتاج أكثر ما نحتاج الآن إلي التنظيم‏,‏ والحسم‏,‏ وأخذ الأمور بجدية أكثر‏.‏

ونشكر الله علي لطفه معنا‏,‏ رغم إهمالنا وقلة حيلتنا‏.‏

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى