مقالات الأهرام اليومى

القلق الاقتصادي‏..‏ والدينار العراقي

انتابت السوق المصرية ظاهرة اهتمام بالدينار العراقي الجديد ــ الذي بدأ التعامل به منذ أيام ــ كانت في بدايتها عادية‏,‏ فهناك مصريون‏,‏ كانت ولا تزال‏,‏ لهم علاقة بالسوق العراقية‏,‏ تحولت إلي مضاربة سريعة‏,‏ لاكتناز الدينار الجديد‏,‏ حيث كان سعر المليون دينار يقترب من خمسة آلاف جنيه‏,‏ وفي أيام قليلة بلغت المضاربة حدها الأقصي ما بين‏14‏ و‏17‏ ألف جنيه‏,‏ عند هذا الحد انتبهت السلطات النقدية‏.‏
وبدأت في تحذيراتها من هذا السلوك الخطر علي الاقتصاد‏,‏ وعلي حائزي العملة العراقية المتغيرة‏,‏ لأن الدينار مازال عملة محلية‏,‏ غير قابلة للصرف أو التحويل‏,‏ ولم تحدد لها أسعار للتعامل الخارجي بعد‏,‏ أي أنها تجارة في الخسارة‏,‏ واللجوء إلي المضاربة عليها بهذا الشكل والارتفاع المستمر في أسعارها‏,‏ لا يعكس خللا اقتصاديا داخليا فقط بل قلقا متزايدا‏!.‏

وبعيدا عن اللغة التي تحذر من اكتناز العملة العراقية‏,‏ فإنه يجب أن نفهم أن المصالح الاقتصادية والتحليل الدقيق لظروف الأسواق هي التي تحكم حركة الناس‏,‏ وأساليب تعاملهم‏,‏ والدينار من العملات التي لا يمكن علي الإطلاق تجاهلها رغم المصاعب‏,‏ التي تكتنف العراق من احتلال‏,‏ واقتصاد مازالت ظروفه غامضة‏,‏ ومستقبله يشوبه كثير من الصعوبات‏,‏ لأن العراق بلد كبير‏,‏ والمصريون بكل قطاعاتهم يعرفون العراق‏,‏ ويسعون للعمل فيه‏,‏ أو الاستمرار هناك‏,‏ ففي عز الحروب الإيرانية والكويتية‏,‏ والمصاعب في ظل الحكم السابق‏,‏ وعدم وجود اقتصاد علي الإطلاق‏,‏ أو تحويلات نقدية إلا بعمليات حفظ الحقوق عبر تهريب سلع وقطع غيار‏,‏ لم يترك العمال والفنيون المصريون السوق العراقية‏,‏ وظل هناك تعامل تجاري واقتصادي‏,‏ ولا يمكن أن ينكر أحد أن الاهتمام بالسوق العراقية يتزايد ليس إقليميا فقط‏,‏ ولكن عالميا‏,‏ فالكعكة الاقتصادية في العراق عظمي‏,‏ شئنا أم أبينا وتلك حقيقة توضحها الأرقام وليس الأمنيات أو التخوفات‏.‏
لكن يجب أن نحدد أن السبب المباشر لهذه الهوجة في الارتفاع العشوائي غير المبرر للدينار‏,‏ ليس مسئولية المواطنين المباشرة‏,‏ ولكن جاء نتيجة تردد البنوك المصرية في البداية في استيراد العملة الجديدة‏,‏ رغم أن كل مراقب عقلاني كان يدرك أن ثمة تغيرا طرأ علي الأوضاع الداخلية في العراق منذ نهاية العام الماضي‏,‏ بعد انتهاء اتفاقية النفط مقابل الغذاء‏,‏ حيث تمكن العراق من الحصول لأول مرة علي مقابل نقدي بالدولار‏,‏ مقابل مبيعاته النفطية‏,‏ وبدأ البنك المركزي العراقي في بيع حصيلة الدولار للبنوك العراقية‏,‏ وهو تطور أدي إلي ارتفاع العملة العراقية بنسبة‏25%‏ فورا‏.‏

كما أن كل متابع يري أنه رغم عمليات المقاومة والقتل في العراق‏,‏ فإن مؤتمرات الإعمار وصفقاته لم تتوقف‏,‏ والشركات تتنافس‏,‏ وتسعي لكسب موطيء قدم في السوق العراقية الكبيرة‏,‏ وأن رحلة جيمس بيكر‏,‏ المبعوث الأمريكي‏,‏ لشطب الديون العراقية‏,‏ إلي الدول الأوروبية وروسيا وهي الدول الأقوي‏,‏ وصاحبة الحصة الكبري في الديون‏,‏ قد نجحت نجاحا غير متوقع‏,‏ لأن الدول تنافست علي إسقاط الديون العراقية لاعتبارات عديدة‏,‏ من أهمها إرضاء الأمريكيين‏,‏ وخطب ودهم ليكون لهم دور في مستقبل المنطقة التي يجري تغييرها علي قدم وساق‏,‏ ولكن البعض لا يريد أن يصدق‏.‏ كما أنها كانت قروضا كريهة‏,‏ حيث استخدمت في شراء أسلحة للحروب ضد مصالح الشعب‏,‏ ومن حق أي حكومة قادمة أن ترفض تسديدها‏,‏ بل أن تطالب بتعويضات لصالحها من تلك الدول‏.‏
ولذلك يجب أن ندرك أننا أمام أوضاع جديدة في العراق‏,‏ وهذا لا يعني أن نترك أسواقنا نهبا للمضاربات‏,‏ ولكن بالتدخل الاقتصادي الحاسم والسليم في نفس الوقت‏,‏ فتجاهل الأوضاع‏,‏ وكأنها غير موجودة‏,‏ سيؤدي إلي تنامي الأسواق البديلة‏,‏ والمضاربة علي سعر العملة بالطريقة التي حدثت‏,‏ لأن هناك مصالح وشركات مختلفة وأفرادا كثيرين يتعاملون مع هذه السوق‏,‏ بل إن لهم طموحات متعددة‏,‏ وهي مشروعة‏,‏ ولم تتوقف المضاربات نتيجة للتحذيرات الأمنية أو بالتدخلات‏,‏ ولكن توقفها تم بعمل اقتصادي بحت عندما كشفت إحدي شركات الصرافة عن إعلان سعر حقيقي للدينار العراقي مع الجنيه المصري بالاتفاق مع البنك الوحيد‏,‏ الذي لم يتردد في استيراد الدينار العراقي‏,‏ وهو البنك المصري الأمريكي‏,‏ فاكتشف المتعاملون في السوق السوداء الفارق الكبير في حقيقة الأسعار التي اشتروا بها‏,‏ وشكل ذلك ضربة للسوق السوداء‏,‏ فالخسائر كبيرة لأن هناك فارقا في السعر الحقيقي الذي لا يتجاوز‏4500‏ جنيه للمليون‏,‏ والعودة إلي القنوات الطبيعية عبر البنوك ستوقف المضاربات وتضمن تعاملا نظيفا وشفافا وحقيقيا‏.‏

تلك هي الحقائق‏,‏ إذا وضعناها أمام بعضها البعض لاكتشفنا أننا لا نتعلم من أخطائنا بل نكررها‏,‏ لأن نفس هذه الأزمة سبق أن مرت علينا مع الدينار الليبي وتم تخزينه وبيعه بعد فترة‏,‏ عقب التغييرات السياسية الأخيرة هناك‏,‏ وبالعودة بالذاكرة فنفس الأزمة تكررت بالنسبة للدينار الكويتي‏,‏ الذي انخفضت قيمته عقب الغزو العراقي إلي‏50‏ قرشا ثم تجاوز‏22‏ جنيها مصريا‏,‏ لكن تنظيم الأسواق وسرعة مبادرة البنوك بالأسس المصرفية الحديثة‏,‏ تحمي المتعاملين من المضاربة‏.‏ والأهم فهناك حالة من انعدام الثقة‏,‏ تجعل الأسواق مضطربة‏,‏ ويجب دراستها‏,‏ حتي ولو قمنا بتغييرات قاسية‏,‏ لتشعر السوق بجدية المرحلة الراهنة‏,‏ ولكن أطلب من الحكومة أن تعرض مشروعات وفرصا للاستثمار أمام القطاع الخاص‏,‏ وتساعده علي خلق أعمال‏,‏ وأن تسعي إلي ربط نفسها من جديد بعجلة الاقتصاد العالمي‏,‏ لنثق فيها‏,‏ فهي وحدها لا تستطيع أن تنجح بدون مساعدة خارجية‏,‏ ويكفي أن نذكرها بأن البرنامج الوحيد الذي نجح في تاريخنا الحديث للإصلاح في منتصف التسعينيات كان معظمه بمراقبة ومتابعة مع المنظمات الدولية‏,‏ ثم تدهورت أوضاعنا الاقتصادية‏,‏ عندما خفت المتابعة‏,‏ وتصورنا أننا أصبحنا بعيدا عن الأزمة‏,‏ فإذا بالكارثة تلوح في الأفق‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى