دولة القانون

علينا جميعا, مواطنين ومهتمين بمستقبل الديمقراطية أن نتابع, بدقة, القضية المثارة حاليا في مصر حول الوضع الدستوري, أعني قضية بعض نواب مجلس الشعب, والدعوة عامة ومفتوحة للجميع, فتلك القضية المعروفة بـ نواب التجنيد, راحت تتفاعل مرة أخري, وكان آخر تداعياتها هو تدخل الرئيس مبارك بتكليفه الحكومة لتحصل علي تفسير من المحكمة الدستورية العليا, لحسم الخلاف حول مادتين في قانون مجلس الشعب, ومحورهما ما إذا كان يجب أن يفتح باب الترشيح في الانتخابات التكميلية لمن تتوافر فيهم الشروط, أم يقتصر علي من سبق اشتراكهم في الانتخابات التي جرت لاختيار البرلمان عام2000, بعد إسقاط من استبعدوا؟!
وهناك جدل قانوني كبير, والفقهاء تدخلوا وأدلوا برأيهم فيما يجري, أما الصحافة الحزبية, خاصة المعبرة عن أكبر الأحزاب المعارضة والمتمثلة في صحيفة الوفد اليومية, فقد لعبت دورا بارزا في طرح الأبعاد القانونية المختلفة, لكن الرأي القاطع لانزال في انتظاره لنقطع الشك باليقين, ولن يكون ذلك إلا من خلال المحكمة الدستورية العليا, التي تضبط القوانين وتضمن دستوريتها.
لكننا يجب أن نتذكر هنا أن هذه ليست أول مرة في مصر التي يتفاعل فيها المجتمع المدني, والديمقراطي مع هذه القضايا السياسية المثيرة, فقد سبق, تلك القضية المهمة, قضايا أخري استخدم فيها الرئيس مبارك سلطاته بحل مجلس الشعب مرتين, تنفيذا لأحكام المحكمة الدستورية العليا, ومازلنا نتذكر حكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية مادة في قانون مباشرة الحقوق السياسية, بشأن إسناد وإشراف ورئاسة اللجان الفرعية والعامة لانتخابات مجلس الشعب إلي غير أعضاء الهيئات القضائية, وهو القانون الذي صدر وأجريت في ظله انتخابات مجلسي الشعب والشوري الحاليين, بما اعتبر تطورا ديمقراطيا نوعيا يحدث في مصر, ويضمن حماية حق الناخب وصوته دون تزوير, ويحيطه برعاية السلطة القضائية, ورقابتها عالية الاحترام لدي الجميع في بلدنا.
إن هذا الحوار الديمقراطي, والقانوني المتخصص عالي الدقة والمكانة, لا يمكن أن تجده في المنطقة من حولنا, وهذا يعني, بدلالة قاطعة, أن ما تملكه مصر من إمكانات وبنية أساسية للنظام الديمقراطي الكامل والصحي لا يمكن مقارنته بالآخرين, أما المجتمع نفسه فلا يمكن أن يتحول النظام السياسي فيه إلي نظام ديمقراطي كامل, إلا في ظل دولة يحكمها القانون, وتسود فيها المؤسسات التي تحميه من الفوضي والاضطراب.
ولله الحمد, في مصر مؤسسات قضائية متعددة, وبنية قوية لنظام التقاضي, لا تجد لها نظيرا, إلا في البلاد العريقة, حيث تبدأ درجات التقاضي وتتدرج حتي تصل إلي مراتب متقدمة, وصولا إلي محكمة النقض, ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا, والمجلس الأعلي للهيئات القضائية, وليست في مصر مؤسسات قضائية فقط, لكن أيضا فيها قضاة مشهود لهم بالنزاهة والاستقلال والاحترام والضمير الحي, وكفاءتهم تضعهم في أعلي درجات الامتياز طبقا للمعايير العالمية للتقاضي, والمحكمة الدستورية العليا, الآن برقابتها علي القوانين, ضمنت لنا أعلي درجة من نقاء هذه القوانين ودستوريتها, وأحكامها صارت تنفذ فورا, وكل ذلك دليل دامغ لكل من له إدراك ومتابعة ولو يسيرة, لما يجري في البلاد التي نستطيع أن نقول عنها دون تردد إن القانون يسود فيها, أو أنها دولة القانون بالفعل, أما الحيوية السياسية الأخيرة, فتؤهلها للانطلاق إلي نقطة أكثر تقدما في الإصلاح السياسي لتصل إلي المرحلة التي سوف تملك فيها إحداث تنافس سياسي نادر, ينقلها إلي مستويات متقدمة من تفاعل الحياة السياسية المنشودة.
إن أحكام محكمة القضاء الإداري, والمحكمة الدستورية العليا, ثم الحوار السياسي الكبير, الرائد في كل الأحزاب السياسية, ولدي القانونيين, يثبت أن المناخ الصحي لحرية الرأي, واتساع مجال الحوار في مصر.
كل ذلك سيؤهلنا إلي خطوات أكثر قوة وجرأة في الحياة السياسية في مصر, فلا خوف الآن من أن تجتمع النخبة, بكل إمكاناتها, علي صياغة تعديلات أو تغيير دستوري شامل وجديد علي دستور عام1971, ليصبح دستورا أكثر قدرة علي تلبية الطموح المصري في ديمقراطية كاملة, تعطي الشعب حريات أكثر, خاصة أن المرحلة الأخيرة, شهدت تحولا مصريا كبيرا في كل مجالات الحياة, أصبح يستدعي تطورا موازيا في حياتنا السياسية والدستورية, مما يعطي بلادنا وجها جديدا, ويجعل نظامنا السياسي نموذجا يحتذي في منطقة الشرق الأوسط, نستكمل من خلاله حلقات التغيير السياسي الضروري لبلادنا في المرحلة الراهنة, وحتي نحقق ما نصبو إليه من آمال في قضية استكمال دولة القانون وقوتها, يجب أن نواصل عمليات التحديث التي تجري الآن للمحاكم والتطور الهائل في اختيار وتدريب ثروتنا القضائية باعتبارها عنوانا للدولة التي نريدها.
إن دولة قانون كاملة سوف تحقق سرعة التقاضي وحسمها, فهناك الآن أحكام كثيرة لا تنفذ, وسرعة التقاضي وسرعة تنفيذ الأحكام بعدها ستعطي مصر مزايا جديدة في مجال تقوية بنيانها السياسي والديمقراطي, كما نطالب أيضا بأن تكون هناك ثورة تشريعية في مجال تنقية القوانين, أما الأهم فهو أن يتم الإعداد لما نسميه تطورا اجتماعيا يساعد علي سرعة حل المنازعات, بوسائل مختلفة, والتقليل من حدتها, فزيادة كفاءة القضاء في مصر, وحسم المنازعات ستشكل علامة صحة للمجتمع وتطورا هائلا, وسرعة تنفيذ الالتزامات, وإذا ما تم ذلك فإنه سوف يخفف من التشابك والأزمات الحادة التي يعيشها المجتمع, وينعكس علي ملايين القضايا التي تزدحم بها دور العدالة. لأن الاهتمام بالبنية الأساسية للنظام الديمقراطي هو أكثر ما يشغلني في الوقت الراهن, ويأتي في مقدمته بناء دولة القانون, ومصر تملك هذه الدولة, وتسير فيها بخطي واثقة وقوية, قلما نجدها في دولة نامية, لكن هذه المسيرة ينقصها بعض الحسم في سرعة التحديث, وسرعة التقاضي وتنفيذ الأحكام, وإذا تلافينا ذلك فسوف نجد عند هذه النقطة, أننا في دولة مثالية, في مختلف المجالات, ويصبح بنيانها السياسي أقوي وأكثر قدرة وتطورا في البناء الديمقراطي.