قاطـرة تشــريعية جــديدة للإصلاح السياسي والاقتصادي

يشكل خطاب الرئيس حسني مبارك, في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة, وثيقة سياسية متكاملة. ليس فيما يتعلق بتقييم المرحلة السابقة من الأداء الحكومي والسياسي فحسب, ولكن أيضا فيما يتصل بأجندة المرحلة المقبلة من العمل الوطني. فالحقيقة أن الخطاب قد نقلنا إلي نوع جديد من المبادرات السياسية الخلاقة التي تشخص المشكلات القائمة, وتضع الحلول المناسبة لها, من خلال برنامج متكامل يقوم بتغيير البيئة المحيطة, ويعزز القدرة علي الانتقال بالواقع السياسي والاقتصادي إلي مجتمع عصري تعددي, وهكذا تستمر عملية البناء, وتتم ترجمة الأسلوب النظري إلي واقع عملي, لا يرصد المشكلة ويطرح حلها فحسب, وإنما يحدد أيضا منهج التحول وأساليبه بترسيخ المشاركة, والمواطنة, والمساواة في الحقوق والواجبات. وإذا توقفنا أمام حزمة التشريعات الجديدة, التي طالب الرئيس مبارك البرلمان بتبنيها والعمل علي إتمامها, فإنها تعطينا صورة مباشرة عن تلك العملية التي ننشدها جميعا, والتي سوف تهيئ المناخ, وتوفر البيئة التي تستطيع الحكومة من خلالها ترجمة برنامج الرئيس الانتخابي, الذي أصبح بمثابة عقد اجتماعي ملزم بين الحكومة والشعب, فهو البرنامج الذي خاض به مبارك انتخابات الرئاسة في سبتمبر الماضي, وحاز ثقة الناخبين, وتأييد الشعب, وقد عززته انتخابات نوفمبر البرلمانية القاسية التي جاءت بمجلس الشعب الحالي, الذي نطالبه بإنجاز تلك المهمة الجديدة, وأحسب أنه في حالة النجاح في تنفيذها فإنها ستفتح شرايين المجتمع المصري, وتدعم قدرته علي العمل الجاد لوضع مصر علي طريق الدولة العصرية المنشودة. تلك الدولة التي وصفها الرئيس في خطابه بـ مجتمع عصري تتسع ديمقراطيته, ويتزايد تحرير اقتصاده وتماسكه يوما بعد يوم, ويوفر المزيد من فرص العمل ويحاصر البطالة, ويجذب الاستثمارات والسياحة, ويعزز قدرة صادراته علي المنافسة, ويفتح أمامها أسواقا جديدة في عالم بلا حدود. ولاشك أن هذه السياسة, وهي التي ننشدها لمعالجة مشكلاتنا, تدعمها قدرتنا علي الاستمرار في عمليتي الإصلاح السياسي والاقتصادي, وهو ما يعبر عنه الموقف الراهن الذي تؤكده الأرقام الحقيقية عن الاقتصاد المصري, التي توضح تحركه بالفعل, وقدرته علي إتاحة فرص التشغيل للوافدين سنويا إلي سوق العمل, وامتصاص البطالة المتراكمة بالتدريج من سنوات النمو البطيء والتي تنطلق الآن بنمو الاقتصاد الذي استرد عافيته, وتتحسن مؤشراته يوما بعد آخر. | |
لقد ارتفع معدل النمو الاقتصادي إلي5.2% في الوقت الذي شهد فيه معدل التضخم انخفاضا ملموسا, بما يحقق معدل نمو6% في نهاية هذا العام, وقد استطاع اقتصادنا جذب استثمارات أجنبية مباشرة بلغت قيمتها4.7 مليار دولار, وهو مايعادل ثلاثة أضعاف ما كانت عليه منذ عامين. وكشفت المؤشرات الأخيرة, الخاصة بميزان المدفوعات المصري عن أنه حقق فائضا في الربع الأول من السنة المالية2006/2005 يصل إلي8,1 مليار دولار, بينما ارتفع معدل الاستثمارات الأجنبية المباشرة العام الماضي, بما يزيد علي211%, وحقق الاستثمار الأجنبي المباشر في شكل مشروعات جديدة, خلال الربع الأول من العام, صافي تدفق للداخل يقدر بنحو9,1 مليار دولار مقابل1,1 مليار دولار عن الفترة نفسها من العام الماضي, بينما نشطت الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة ليحقق الاستثمار في محفظة الأوراق المالية بالبورصة المصرية صافي تدفق للداخل قدره6,2 مليار دولار, وذلك وفق بيانات الربع الأول للفترة من يوليو/ سبتمبر من العام المالي2006/2005. إن هذا النشاط في الاستثمارات الأجنبية قد تبلور في زيادة واضحة في عدد الشركات, التي تم تأسيسها خلال الفترة من يوليو2004 إلي يونيو2005, والذي بلغ نحو5880 شركة, وهو مايصل إلي ضعف عدد الشركات التي تأسست في الفترة المناظرة من العام الماضي. وهذه المؤشرات تتفق مع رؤية محايدة لمجلة البيزنس ويك الأمريكية التي صنفت البورصة المصرية ضمن أهم عشر أسواق صاعدة علي مستوي العالم. والحقيقة أن هذه التدفقات من رءوس الأموال الأجنبية, ومن تحويلات المصريين العاملين في الخارج, ومن مواردنا من السياحة, وقناة السويس, والصادرات السلعية, والبترولية, قد انعكست بشكل إيجابي علي الاحتياطيات من النقد الأجنبي, والتي ارتفعت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية إلي مايقرب من22 مليار دولار بفعل التدفقات الأجنبية للاستثمار في سهم المصرية للاتصالات, والتي قدرها البنك المركزي بما يتراوح بين500 و600 مليون دولار. ويعد هذا الرقم من احتياطي النقد الأجنبي مؤشرا مهما علي حجم التحول الاقتصادي المصري, فهو أعلي مستوي وصل إليه هذا الاحتياطي في تاريخ مصر, حيث تجاوز الرقم القياسي الذي وصلنا إليه في نهاية فترة المد التي صاحبت مرحلة الإصلاح الاقتصادي الأولي, ولقد شهد اقتصادنا بعد1997 بداية لموجات تباطؤ وتراجع في المؤشرات, سواء بفعل عوامل داخلية أم خارجية, وهو ما أدي إلي تراجع حجم الاحتياطي من النقد الأجنبي في يناير2004 ليدور حول13.5 مليار دولار فقط. وإذا انتقلنا إلي صعيد آخر وهو صعيد المؤشرات النقدية, فسنشهد منظومة من الإصلاحات المهمة, في مقدمتها برنامج للإصلاح المصرفي, وانتهاء معظم البنوك المصرية من زيادة رءوس أموالها طبقا لقانون البنوك, وبما يتوافق مع المعايير العالمية, من حيث كفاية رأس المال, وهناك برنامج زمني دقيق لإنهاء مجموعة من الاندماجات, التي ستسهم في زيادة كفاءة البنوك المصرية, وكذلك إيجاد برنامج شامل لإنهاء مشكلة التعثر التي تعطلت معها ـ وعلي مدي عامين ـ ماكينات العديد من المصانع, وتشير الأرقام إلي انتهاء البنوك من عمليات جدولة جزء كبير من هذه الديون, بالإضافة إلي استرداد أكثر من20% منها في شكل نقدي, مع تقديم حلول جذرية لديون قطاع الأعمال العام علي البنوك والتي تتراوح بين35 و37 مليار جنيه. لقد تم تنفيذ هذه الإجراءات بشجاعة وتعاون وثيق بين البنك المركزي والبنوك المصرية من ناحية, والحكومة من ناحية أخري, وانعكس ذلك علي حركة التشغيل في المصانع القائمة بالمدن الجديدة, وبدء دوران عجلة الاقتصاد بشكل متسارع, والدليل علي ذلك مؤشرات مهمة أخري تتمثل في زيادة حجم الواردات, خلال الربع الأول من العام المالي الحالي, بمقدار9,1 مليار دولار لتصل إلي2,7 مليار دولار, ويمثل7,55% منها واردات من السلع الوسيطة والاستثمارية ومستلزمات الإنتاج. أيضا بدأ برنامج تحديث الصناعة يؤتي ثماره بشكل واضح, حيث تم وضع استراتيجية شاملة لإعادة هيكلة المصانع المصرية وتحديثها والاستفادة من الخبرات الأوروبية في إطار اتفاقية المشاركة مع الاتحاد الأوروبي, وتم إعداد استراتيجية تنمية صناعية تستهدف زيادة الاستثمارات الصناعية إلي229 مليار جنيه, وتوفير9,1 مليون فرصة عمل جديدة. وقد ارتبط بهذا الأمر وترافق معه برنامج شامل لزيادة الصادرات المصرية عن طريق تقديم المساعدات الفنية والدعم للمنتجين من أجل التصدير, وهو ما انعكس أيضا علي زيادة واضحة في حجم الصادرات, بما يصل إلي نحو900 مليون دولار, لتبلغ4 مليارات دولار في الفترة من يوليو إلي سبتمبر من العام المالي2006/2005. وفي إطار المنظومة نفسها ارتفع إجمالي الودائع لدي البنوك, وهي التي تشكل الدعامة الرئيسية للاستثمارات المحلية, ليصل في أغسطس الماضي إلي نحو537 مليار جنيه, بينما بلغ حجم الاستثمارات المحلية في الربع الأول من العام, وفقا لخطة الدولة, نحو20 مليار جنيه. وهذه المليارات التي تضخ الدماء في شرايين الاقتصاد المصري قد انعكست علي حجم الناتج المحلي الإجمالي فقد ارتفع إلي149 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام المالي الحالي. ومن هذا المنطلق فإن المبادرة الجديدة التي قدمها الرئيس مبارك للبرلمان لمواصلة عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي تقوم علي أرضية قوية من تطوير الاقتصاد المصري, وبدء حركة نمو متواصلة تستند إلي زيادة معدلات التنمية بزيادة الاستثمار وفرص العمل, ولاشك أن القطاع الخاص بشقيه المحلي والأجنبي يسهم في تحقيق هذه الأهداف بما يتاح له من مناخ وتخفيضات ضرائبية. وتجئ الأجندة التشريعية الجديدة حاملة رؤي التمسك بالإصلاحين السياسي والاقتصادي, مع تحسين الأجور والخدمات لكل المواطنين, واضعة رؤي الدولة العصرية بكل مشتملاتها موضع التنفيذ مع أولويات جديدة يجب احترامها. وعلي البرلمان أن يفتح الحوار المباشر مع الحكومة لسرعة إقرار التشريعات التي أعلن عنها الرئيس, وأهمها ما يلي: * قانون البناء الموحد: وهذا القانون سوف يخلصنا من المباني العشوائية, ويعمل علي تشجيع الاستثمار في قطاع التشييد باعتباره قاطرة النمو في أي اقتصاد قومي, كما أنه سوف ينعكس علي العديد من الصناعات المغذية, والعديد من مجالات الإنتاج والخدمات, وبالتالي سوف يعود بنا إلي التخطيط العمراني المحدد لكل من القرية والمدينة, وبالتالي نملك قرية نظيفة, مزودة بالخدمات ومدينة منظمة يحترم أهلها أساليب البناء الحديث وتتوافر فيها الخدمات لكل منزل وشارع. * قانون الضرائب العقارية: وسوف يوسع الوعاء الضريبي ويخفض سعر الضريبة أسوة بما حققناه بقانون الضرائب علي الدخل من ثورة حقيقية في الضرائب. * المحاكم الاقتصادية: وتلبي رغبة حقيقية في السوق المصرية لسرعة الحسم في القضايا الاقتصادية, وتدوير الأموال وعودتها إلي السوق مرة أخري, بعيدا عن المنازعات التي تؤثر علي الحياة الاقتصادية وتشل الاقتصاد كله. * قانونان مهمان للغاية لتطوير النظامين التعليمي والصحي: ويهتمان بظهور مؤسسة ضمان الجودة, وفق المعايير الدولية المعترف بها, والارتقاء بالخدمة من مجرد إتاحتها إلي مفهوم الارتقاء بالجودة, ويعطي القانونان للمعلمين والأطباء أهمية خاصة, ويسعيان إلي وضع كادر خاص لأجورهم, بما يعني ثورة حقيقية في أهم خدمتين لحياة الإنسان: التعليم والصحة. ونستطيع أن نؤكد مع الرئيس مبارك أن مرحلة جديدة من العمل الوطني المصري قد بدأت الآن, عمادها برلمان قوي أفرزه الشعب. وحكومة جديدة لها أرضية من الإنجازات, ومناخ سياسي واقتصادي مختلف يشعر به المواطن الذي أصبح يتنفس الآن الحرية الكاملة, وأحسب أن جميع المؤسسات العاملة والأحزاب الوطنية والقوي السياسية مطالبة الآن بتصحيح سياساتها, والانضمام إلي مسيرة التغيير والإصلاح في مصر. والمشاركة الجادة والفعالة في مختلف المجالات, وليس الوقوف في طوابير المنتظرين أو الناقدين بلا عمل أو هدف, فالتغيير والإصلاح لن يحدثا إلا بمشاركتنا جميعا بما فيه مصلحة مصرنا العزيزة. | |