تعقيدات الديمقراطية.. ومشكلاتها

علي أبواب الديمقراطية الحقيقية, دائما وأينما وجدت, مشكلات وتعقيدات. وكلما اقتربنا منها تزداد تعقيدا, ويظل الأمر كذلك إلي أن تستقر فينا ثقافة الديمقراطية, وتنساب سلوكا مؤسسيا وفرديا يوميا في جميع أنشطة الحياة.
وأحسب أن الانتخابات الحالية تحتوي من المشكلات بقدر اقترابها من الحلم السياسي الذي راودنا طويلا. فالحياة السياسية المصرية الآن تعاني آلام التحول نحو الاختيار الحر الذي يتقاطع كثيرا مع المصالح والأهواء, ويصطدم مع أعراف وتقاليد ظلت تمارس تأثيراتها القوية في حياتنا لتخلط الخاص بالعام والفردية بالجماعية والغرض بالرأي. كما أنها تكشف عن تناقض مرحلي بين الهدف ووسائل بلوغه. ومهما تبلغ المشكلات والمعاناة فإن الديمقراطية جديرة بأن نضحي كثيرا من أجلها. وأخشي أن يعلو صوت المرجفين رغبة ورهبة فيجدوا في مسلك هنا وآخر هناك ما يبرر الكفر بالديمقراطية أو الانصراف عنها.
لقد جاءت الجولات الثلاث, التي جرت حتي الآن, من الانتخابات والإعادة بظواهر مسيئة إلي حد بعيد ربما يختلف البعض حول أسبابها وسبل علاجها. ولكنها في النهاية لاتشكل عقبة في طريق مازلنا في بداياته. فأكثر ما نحتاجه اليوم هو تجديد الثقة في مساعينا والهدف الذي نرمي إليه. فهذه الثقة وحدها كفيلة بتجاوز العقبات وتحمل المعاناة. وهي وحدها التي تمكننا من تصحيح المسار الطويل. فمهما تكن السلبيات التي وقعت أو تلك التي سوف تقع, فليس أمامنا من طريق سوي التفكير فيما هو قادم, والوسائل التي تكفل لنا أن تخلو الايام المقبلة من مثل هذه العقبات. فنحن ندرك أن هذه الانتخابات لم تكن حلقة في سلسلة بقدر ما هي بداية لمرحلة بأكملها نتطلع فيها إلي تحقيق ما عجزت عن تحقيقه مراحل أخري سابقة. ولن يخرج حزب أو تيار من هذه الانتخابات مثلما دخلها بصرف النظر عن عدد المقاعد التي فاز بها. فهذه الانتخابات سوف تترك تأثيرا قويا يتردد صداه في الأحزاب والتيارات, وشركاء الحياة السياسية جميعا, وهو ما يصب في النهاية في مصلحة التطور الديمقراطي.
وربما يري البعض فيما أسفرت عنه الانتخابات حتي الآن ما يثير المخاوف أو الشك الناتج عن المفاجآت المناقضة للتوقعات. وربما يصنف البعض ذلك علي أنه ملمح سلبي لهذه الانتخابات, ولكن هذه النتائج تتسق كثيرا مع أي اختيار ديمقراطي حر. فالتوقعات التي سبقت الانتخابات, بنيت علي خبرات سابقة, وتراث لم يعد صالحا للتنبؤ به, فضلا عن أنها اعتمدت علي الملاحظات والقراءة النظرية للواقع الجديد, في غياب أدوات قياس الرأي العام ودراسة الواقع الحقيقي. وأحاطت بكل ذلك خلفيات مستمدة من تجارب الماضي.
لقد تعهدت الحكومة بانتخابات حرة ونزيهة, وبرغم أن الحزب الوطني حقق الأغلبية فيما انتهي من الجولات الانتخابية, فإن البعض يري في ذلك خسارة, خاصة, وأن رموزا في الحزب لم يحالفها التوفيق. ولو أن الحزب الوطني فاز بعدد أكبر من المقاعد لاعتبره هؤلاء تدخلا سافرا من الحكومة في الانتخابات. ومع ذلك فمازال البعض يردد مقولات التدخل. والحقيقة أن هذه التعددية في الطرح والتحليل ـ وبرغم أن الصواب يجانب بعضها ـ ضرورية لإثراء الحوار الوطني في الشأن العام.
سلوك إجرامي وغلو في رد الفعل
لقد انتهت الانتخابات حتي الآن بكثير من مظاهر الخروج علي القانون, وانتهاكه, بل وإذلاله. فليس أقسي علي القانون, ورجاله من سطوة حفنة من المجرمين علي بعض مجريات الحدث الانتخابي, والاعتداء علي القضاة, متسلحين بحماية بعض المرشحين وأنصارهم, ولقد دفع هذا العدوان علي القانون بعض القضاة إلي المطالبة بتفعيل المادة26 من القانون73 الخاص بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية, والذي يخول لرؤساء اللجان سلطة طلب الشرطة أو القوة العسكرية لفرض النظام. فنحن أمام سلوك إجرامي ورد فعل لايخلو من الغلو. فالشرطة المصرية قادرة علي حفظ النظام وهي مدعوة اليوم إلي ذلك دون حساسية من أن تتهم بالتدخل في سير العملية الانتخابية. فالديمقراطية أكثر حرصا من أي نظام آخر علي تنظيم الحقوق والواجبات بالقانون المدني.
ومن غير المقبول أن يصل مرشح إلي البرلمان محمولا علي أوراق البنكنوت وأكتاف البلطجية ودماء الناخبين. كما أن الانتهاكات التي شهدتها الانتخابات تعد جزءا من ثقافة لاتكترث كثيرا بالقانون وإنفاذه. فحياتنا اليومية, مليئة بالمخالفات الصارخة حتي أصبح العمل بالقانون حالة استثنائية في الحياة اليومية بل إن فرضه أصبح تعبيرا عن حالة من الظلم في الثقافة السائدة بيننا. وهناك عقوبات لاتليق بالجرم المرتكب وأصبح الخوف من تشديد العقوبة وسيلة لتجاوز البسيط منها. والأمر ـ بهذه الصورة ـ يتطلب مواجهة حاسمة ومراجعة شاملة لعلاقة الأفراد والمؤسسات بالقوانين, ولكي نتدارك هذا المأزق لابد من اتخاذ إجراءات سريعة وفعالة في مواجهة البلطجة والرشوة فيما تبقي من الجولات الانتخابية. فليس مقبولا أن تتعلق آمالنا بمجلس تشريعي جاء نفر من أعضائه إلي مقاعد البرلمان فوق جثة القانون.
وتضاف إلي هذه الجرائم مخالفات قانونية أخري سكتت عنها الحكومة خوفا من اتهامها أيضا بالتدخل في الانتخابات, وهو الصمت عن حملة التزييف التي قام بها مرشحو الإخوان برفع الشعارات الدينية سبيلا للوصول إلي أهداف سياسية. وعلي الحكومة أن تشرح لنا بالتحديد موقع جماعة الإخوان من الحياة السياسية في مصر, وهل هي جماعة مشروعة أو محظورة؟ وهل من حق هذه الجماعة أن تحتكر خبر السماء إلي أهل الأرض؟ وهل في القانون ما يسمح بهذه الشعارات الدينية في مجتمع يسعي نحو حياة ديمقراطية صحيحة؟ فالنتائج المعلنة للانتخابات تتجاهل اسم الجماعة الذي يتصدر لافتات المرشحين المزينة بالسيوف في شوارع المدن والقري بطول البلاد وعرضها.
الناخبون الجدد
وبعيدا عن الممارسات المخزية فيما مضي من جولات تعود قضية المشاركة السياسية إلي فرض نفسها علي حديث الانتخابات, بعد تطور نسبي بسيط في الجولة الأولي. ومشكلة غياب المشاركة في الانتخابات تكاد تكون محصورة في الطبقة الوسطي التي تمثل العمود الفقري للحياة السياسية وتطورها.
فلقد كشفت الدراسات المبدئية التي تحدد نوعية الناخبين الذين اختاروا برلمان المستقبل حتي الآن عن مفاجأة غير محسوبة, وهي أن النسبة الغالبة للحضور والتصويت كانت للفئة العمرية لمن ولدوا بين عامي1982 و1986 وهم المسجلون بطريقة تلقائية علي أساس السجلات المحفوظة من جانب مركز الشرطة الذي ولدوا في دائرته.. أي أنهم يبلغون من العمر ما يتراوح بين18 و22 عاما. وتم تسجيلهم بالطريقة الحديثة الآلية التي قللت إلي حد كبير من الأخطاء التي تتسبب فيها الطرق اليدوية, مثل سقوط حرف أو اسم أو خلط في الأسماء, وبالتالي كان تصويتهم مكثفا في مختلف الدوائر وكان لافتا للانتباه أن معظم أصواتهم ذهبت إلي التيار الديني أو الجماعة المحظورة.
فهل يطمئن ضمير الوطن وأجياله المختلفة إلي أن يتركوا لهذا الشباب الغض صغير السن, والقابل للاستهواء, بين أيديهم مهمة اختيار البرلمان الذي يناط به مهام ثقيلة وقاسية وصعبة دون ترشيدهم وتبصيرهم بمخاطر التصويت تحت حالة الغضب أو الرفض مع وجود قصور في مساعدتهم علي التعمق والتبصير بالمشهد السياسي وأهمية البرلمان لحياتنا المستقبلية والخروج من أزماتنا.
وإذا أضفنا تلك الملاحظة الدقيقة إلي ما شاب الانتخابات من ضغوط وسطوة المال والسلاح لأدركنا أسباب ومخاطر تسلل جماعات أو أفراد خارجين علي القانون, بل ومحظور نشاطهم, حيث إن لهم أهدافا ومصالح لا تتفق مع رؤيتنا لمستقبلنا وتخطيطنا للاحتفاظ بالدولة المصرية العريقة المدنية, التي أفرزتها ثورتا1919 و1952, فلقد دفعت الأجيال المعاصرة ثمنا فادحا لكي نصل إلي هذه النقطة من التطور السياسي, ويجب علينا الحفاظ عليها, بل وتطويرها وتنميتها في المستقبل, حتي لاننزلق إلي حالة فوضي أو ردة بالعملية الديمقراطية, ترجع بنا إلي المربع الأول.
بالرغم من أنني أدرك أن الديمقراطية تستطيع تصحيح نفسها والعودة بالناخبين إلي الطريق الأصوب للاختيار, فإن تلك الأوضاع الموروثة والقديمة, وما ينتج عنها من خلل في تركيبة الهيئة الانتخابية, تدعونا إلي التخوف بل والمطالبة بمشاركة أوسع لكل الفئات مع تبصير الشباب وترشيده بواقعنا ومستقبلنا.
ولاشك أن دعوتنا إلي الطبقة الوسطي للدفاع عن مصالحها ومصالح الوطن بالمشاركة الفعالة في الانتخابات يقتضي منا تحليل العلاقة بين عزوفها والظواهر السلبية التي شهدناها خلال الأسابيع الماضية. فهل هذه الظواهر ناتجة عن غياب مشاركة أبناء هذه الطبقة؟ أم أن هذه الممارسات من بين أسباب عزوفها؟.
إن غياب الطبقة الوسطي الأكثر وعيا وفهما ورؤية للمصالح العامة ربما يقع ضمن اسباب شيوع الرشوة والبلطجة. والحقيقة أن اشتراكها في التصويت كفيل بالحد من هذه الممارسات, ومن واقع ما جري في تجربة الأسابيع الماضية فإن هذه الطبقة قد تندفع صوب المزيد من العزوف والانزواء. ولكن تطور العملية الانتخابية حتي الآن, وفي ضوء نزاهة الانتخابات داخل اللجان, جدير بأن يحركها نحو صناديق الانتخاب في ظل تحرك أمني يجعل تجربة المشاركة آمنة وسلسة وميسورة.
الاتهامات المتناثرة وتأثيرها
وعلي هامش نتائج الانتخابات تناثرت الكثير من الاتهامات في صفوف الأحزاب والقوي التي خاضت مراحلها حتي الآن. وربما كان أكثرها إثارة للدهشة تلك الاتهامات التي طالت رموزا من الحزب الوطني وتحملهم مسئولية المفاجآت التي جاءت بها النتائج. وبكل تأكيد فإن هؤلاء يتجاهلون حقيقة أننا في منتصف الانتخابات تماما وقد خرج الحزب الوطني مما جري بأغلبية تمكنه من المضي في برامجه.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالإخوان المسلمين, فإن ما حصلوا عليه جاء نتيجة عوامل كثيرة لايتحملها الحزب الوطني وحده بل يتحملها أيضا غيره من الأحزاب التي غابت عنها ممارسات وأنشطة حزبية ضرورية ولازمة لمشاركة سياسية فاعلة, كان من الممكن أن تملأ فراغا خلفته أحزاب المعارضة.
وإذا كانت هناك أخطاء قد شابت تحركات الحزب الوطني خاصة مع أحزاب المعارضة, فإنها مسئولية جماعية لايمكن أن يتنصل منها أحد ليلقيها علي أكتاف شخص آخر. فمثل هذا المسلك يضر بآليات تطوير الحزب الوطني وتجديد حيويته وجدارته بقيادة الحياة السياسية في تطورها الديمقراطي. فمازال الحزب في منتصف المعركة الانتخابية ويتحمل ببرنامجه ورؤيته المستقبلية مسئولية صياغة مستقبل أفضل لجموع المصريين. ومن بين ملامح هذا المستقبل أن تتسع الساحة السياسية لقوي متعددة جديدة وقديمة إلي جواره, تفعيلا لحراك سياسي بدأ مع مبادرة تعديل المادة76 من الدستور. ولاشك أن آلية العمل في الحزب اليوم قادرة علي التحول الجماعي بالأخطاء إلي مصدر قوة وحيوية. تنير لنا الطريق نحو المستقبل.