معركة الانتخابات.. وصـراع البرلمــان!

وضعت جولة الإعادة من المرحلة الثالثة لانتخابات مجلس الشعب نهاية لأسابيع طويلة من معركة انتخابية كانت الأكثر تفاعلا, وربما الأكثر تأثيرا في تطور الحياة السياسية بمصر. فلقد استنفرت رؤي وأفكارا وتحليلات حول مستقبل مصر السياسي أكثر مما فعلته أي انتخابات سابقة. ولقيت ممارساتها الإيجابية والسلبية قبولا ورفضا غير مسبوقين. وانتهت إلي نتائج مازالت مجالا لسجال ومناقشات تتسم بكثير من الصخب. وكان لها دوي محلي وخارجي سوف يتردد صداه طويلا. وسوف يمتد هذا الدوي وذلك الصدي إلي جنبات البرلمان الذي شكلت الانتخابات الأخيرة ملامحه وخريطة تياراته السياسية.
والحقيقة أن انتخابات برلمان2005 تمثل قفزة نوعية في مسيرة جديدة بدأها الرئيس حسني مبارك في فبراير الماضي بتعديل المادة76 من الدستور ليصبح انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري المباشر بين أكثر من مرشح, وأبدي حرصه علي أن تستمر المسيرة بكل ما تأتي به من نتائج, وأصبح عام2005 هو عام التحول الديمقراطي في مصر.
و السؤال الملح اليوم, وبعد انتهاء هذا السباق الطويل يتعلق بما إذا كان صراع الانتخابات الذي عايشناه سوف ينتقل إلي البرلمان الذي أصبح بتركيبته الراهنة مستقطبا بين قوتين أساسيتين بصرف النظر عن التوازن بينهما: الحزب الوطني, وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة, التي ربما تكون قد أصبحت الآن محصورة في البرلمان, وتقف أمام امتحان صعب. وإذا كانت الأمور تقاس بمقدماتها, فإن الصراع قادم. ولكن بأي درجة؟ وإلي أي مدي؟ لقد وصل الصراع علي مقاعد البرلمان عبر مراحل الانتخابات إلي مستويات غير مقبولة, وخرج بالانتخابات عن أهدافها, ودهس في طريقه رموزا للعمل الوطني و مصالح عامة كثيرة. ومع ذلك فإن هذه الانتخابات قد برهنت علي رغبة حقيقية من جانب الحكومة والقضاة في أن تخرج الانتخابات معبرة عن الواقع السياسي السائد في المجتمع بإيجابياته وسلبياته. ولكن مع انتهائها أصبح من غير المقبول أن يمتد الصراع بالحدة ذاتها إلي داخل البرلمان, حيث توضع مصالح الوطن علي محك حقيقي.
وقبل أن نتجاوز الواقع الراهن وننظر إلي مابعد المشهد الانتخابي, فإن صورة الأمس ستبقي في مخيلتنا طويلا. فالعنف الذي شهدته جولة الإعادة للمرحلة الثالثة والأخيرة, والذي وصل إلي سقوط ضحايا ومصابين للعملية الانتخابية لايمكن تجاوزه إلا بتحديد المسئولين عنه, ومحاكمتهم ويجب أن يكون هدفنا جميعا هو ألا يتكرر ماحدث, فليس مقبولا أن يذهب المرشحون إلي صناديق الاقتراع وهم محاطون بالبلطجية والمسلحين, وفي مظاهرات عارمة, يستعرضون فيها قوتهم لإرهاب الناخبين من أجل التصويت لهم ومنع معارضيهم من الذهاب إلي صناديق الاقتراع, وليس معقولا أن نطالب أجهزة الأمن احتراما للعملية الانتخابية بألا تتدخل لحماية القضاة والناخبين بل والمرشحين.
وقفة ضرورية ضد العنف
ومكاشفة صريحة لأخطائنا السياسية وتصحيح المناخ السياسي للأحزاب
ولايمكن تبرير هذا العنف وتلك الأشكال الاستعراضية بحجة أنها عادات مصرية في الانتخابات, فلقد استغلها ببراعة حزب غير شرعي يخلط بين السياسة والدين, واستولي علي مقاعد المستقلين لأسباب عديدة أهمها ضعف الحياة الحزبية, وعدم قدرة الأحزاب الصغيرة والمستقلين الحقيقيين علي إدارة عملية انتخابية قاسية وصعبة ومتشعبة, شاهدناها عبر6 جولات من يوم9 نوفمبر الماضي حتي الأربعاء7 ديسمبر الحالي وأفرزت واقعا سياسيا تحوط به الكثير من المحاذير والمخاوف, ويستدعي وجود صراحة كاملة بين جميع اللاعبين علي المسرح السياسي لتقييمه ورصده, بلا تبرير أو تعليق لأجراس الفشل في أعناق الآخرين, فهدفنا هو الحفاظ علي ما تحقق لمصر من تطور سياسي, وبناء دولة عصرية مدنية تتطلع إلي المستقبل برؤية مستقيمة.
لقد حققت الانتخابات, برغم صعوباتها, الكثير. ولعل أبرز تطور فيها هو أنها كشفت لنا عن حقائق كثيرة تستدعي التغيير والعمل المستمر في مجالات عديدة, حيث أعادت ربط ما انقطع في تاريخنا من التغيير عبر الصوت الانتخابي, واستطلعت رأي الناس فيما يريدون, وأسقطت من الذهن العام ما تبقي من موروثات الحزب الواحد, وأدخلت حزب الأغلبية في اختبار جدي لتقويم إصلاحاته, واختبار قدرات أعضائه, ودرجة ولائهم للحزب عندما يتعارض مع مصالحهم الشخصية.
أيضا رصدنا من خلال الانتخابات الأسلوب الأمثل للتحرك في العملية السياسية وعرفنا ماهي التغييرات العاجلة أو الجراحية التي يجب إجراؤها في الجسم السياسي للوطن, ولعل الرسالة الأوضح للانتخابات هي ضرورة ألا تتوقف عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. بل والإسراع فيها حتي تلبي احتياجات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم وهم أقلية. والذين لم يصوتوا وهم الأغلبية.
المهمة الكبري: إدارة التحول الديمقراطي
إن البرلمان المقبل تنتظره مهام كثيرة بالغة الحيوية, وإذا لم يقم بها علي النحو الذي يتوقعه الجميع, فإن مشكلات وعقبات وإحباطات كثيرة سوف تعترض مسيرتنا الديمقراطية. ولعل كثيرا منها يدخل في مهمة هي الأكبر والأهم, وأعني بها إدارة التحول الديمقراطي الذي نعيشه, ونأمل أن يتم بأكبر قدر من السلامة والأمن للمجتمع. فمازالت خبرات الماضي غير الديمقراطي تلقي بظلال كثيفة علي ممارساتنا الراهنة, ومنها غياب ثقافة الديمقراطية والحوار, وتدني المشاركة السياسية والتشويش المصاحب للحقوق والواجبات في العمل السياسي لجميع الأطراف بمن فيهم الناخبون أنفسهم.
إننا في حاجة إلي حوار يضم جميع الأطراف, دون وصاية من طرف علي آخر, حول سبل إدارة هذا التحول. فالتحول الديمقراطي الصحيح لن يكون فقط وليد مزيد من القوانين أو التشريعات, ولن تقوم به أقلية فاعلة وأغلبية صامتة تكتفي من عناء التحول بمقاعد المتفرجين. فهو عملية شاملة تتعدد فيها الأدوار والمهام. بعضها يتعلق بالتشريعات وبعضها الآخر يتصل بالثقافة السائدة, وقدرتها علي الوفاء بسلوك يلائم متطلبات الممارسة الصحيحة. وهناك تشريعات يجب سنها, وقوانين لابد من إصدارها وإجراءات يتعين البدء فيها. منها ما يتعلق بإدارة الانتخابات, ومنها ما يتعلق بموقع وسائل الإعلام من منظومة التحول الديمقراطي قبل الانتخابات وبعدها, ومنها مايتعلق بالحياة الحزبية ومفرداتها. إنها قائمة طويلة من مهام التحول تنتظر الراغبين في تحول ديمقراطي آمن ومنجز.
الديمقراطية لاتبدأ بصناديق الاقتراع
ولاشك أن الانتخابات الماضية تمثل بسلبياتها وإيجابياتها ـ نقطة بداية ملائمة لحشد الإجماع حول آليات إدارة التحول الديمقراطي. وهنا نقول إنه من الضروري تنقية الانتخابات من ظواهرها السلبية التي أفرزتها الأسابيع الماضية. فقد كانت الانتخابات البرلمانية اختبارا لقدراتنا وتصوراتنا وسلوكياتنا اللازمة. وعلينا أن نعترف بأننا نجحنا في بعضها وأخفقنا في بعضها الآخر. وكثير مما أخفقنا فيه يرجع إلي اعتقاد خاطئ بأن الديمقراطية تبدأ من أمام صناديق الاقتراع, مع أن الجزء الأكبر من العمل السياسي الديمقراطي ينتهي في تلك اللحظة التي يدلي فيها الناخب بصوته. فهناك متطلبات كثيرة سابقة علي بدء التصويت. علي مستوي حركة الأحزاب في المجتمع أو اختيار مرشحيها, وعلي مستوي الثقافة السياسية اللازمة للمشاركة والاختيار, والتي لابد أن تتجاوز اعتبارات كثيرة تضر بالاختيار الرشيد, وأخيرا علي مستوي إدارة التفاعل بين المرشحين والناخبين وأعني بها إدارة العملية الانتخابية ذاتها, فبالرغم من المناخ السياسي المواتي الذي وفره تعديل المادة76 من الدستور, فإن الأداء الحزبي في معظمه كان أقل من أن ينجز مهمة التفاعل السياسي النشيط مع جميع فئات المجتمع, وكانت قوائم المرشحين شخصية أكثر منها حزبية, وعانت إدارة الانتخابات قصورا في كثير من جوانبها. كما كانت مخالفات القانون والدستور والتساهل معها أخطاء تجاوزنا عنها في سبيل نجاح التجربة الانتخابية. وفي هذا الصدد أقول إن الانتخابات دفعت إلي البرلمان أعضاء يعلنون ولاء مخالفا للدستور والقانون, وهم مطالبون في الوقت نفسه بأداء قسم احترام القانون والدستور في مستهل عملهم البرلماني. وعلي الذين تسببوا في ذلك أن يشرحوا لنا كيف يمكن الخروج من هذا المأزق. وهل هو قابل للتكرار في حياتنا السياسية ؟ ثم ما هي الضمانات التي تكفل عدم تكراره؟
نواب انتخبتهم أقلية
وعلي رأس قائمة مشكلات التحول الديمقراطي تقف قضية تدني أعداد الذين أدلوا بأصواتهم, وهي مؤشر علي مستويات مشاركة سياسية أشد ضعفا. ولابد أن يتذكر أعضاء البرلمان أنهم وصلوا إلي مقاعدهم بمشاركة اقل من23% من إجمالي المسجلين في الجداول الانتخابية, وهم حسب تقديرات جهاز التعبئة والإحصاء38.5 مليون شخص. ولم يعد من المقبول اجترار تجارب الماضي, واعتباره سببا كافيا لهذا المستوي من المشاركة. لقد مر علي الانتخابات التي أجريت في ظل التعددية السياسية الراهنة, أكثر من ربع قرن ولاشك أن انخفاض المشاركة السياسية في الانتخابات يعد سببا أساسيا لظواهر سلبية أخري, منها الرشوة والبلطجة. فالرشوة كانت خيار بعض المرشحين في ظل قلة عدد الناخبين والبلطجة جعلت مهمة التصويت محفوفة بالمخاطر. وهنا أقول بوضوح إن قضية انخفاض عدد الناخبين سابقة كثيرا علي عمليات التصويت, فهي تمتد بجذورها إلي ضعف المشاركة السياسية بوجه عام قبل الانتخابات وبعدها. ولذلك فإنه يجدر بالأحزاب, وفي مقدمتها الحزب الوطني والبرلمان, أن دراسة سبل تفعيل المشاركة السياسية التي تعد المدخل الطبيعي لحشد المزيد من الناخبين أمام صناديق الاقتراع, ومواجهة الرشوة والبلطجة معا.
نواب بلاخبرة ومعارضة اهتماماتها قاصرة
لقد غيبت الانتخابات الأخيرة عن مجلس الشعب رموزا وخبرات من الحزب الوطني والمعارضة, كان يمكن أن تثري عمل البرلمان, وتعينه علي أداء مهامه التي ينتظرها المصريون.250 نائبا سابقا فقدوا مقاعدهم في البرلمان, وجاء ثلاثمائة آخرون. وتبدو خريطة البرلمان اليوم مستقطبة بين أغلبية ممتدة وأقلية محصورة. فقد انتقل الإخوان من الحظر, الذي سمح به في الانتخابات, إلي حصار لانعرف مدي تسامح الأغلبية البرلمانية معه. وربما تحدد الأقلية حدود هذا الحصار ومداه. إن البرلمان المقبل يواجه قضايا جادة تتطلب قدرا من الإجماع, وقدرا من الاختلاف الرشيد, وتثور هنا أسئلة عديدة منها: مالذي سوف يفعله أعضاء الإخوان في البرلمان؟ هل تستمر استجواباتهم من عينة حظر الكتب التي تخالفهم, والدفاع عن شهريار العصر ورفض المعونة الأمريكية ورفض تطوير الخطاب الديني, وحظر استيراد اللحوم من أوروبا وأمريكا. ومنع مدارس الرقص, ورفض فوائد البنوك وحظر المسابقات التليفزيونية, ومنع التقبيل في الأفلام, وكذلك اقتناء التماثيل, ومنع بيع عروسة الاطفال باربي لأنها تثير الغرائز, وملاحقة المطربات ومنع حفلاتهن؟ إن المهام أكبر من أن تتوقف عند قضايا تثير العاطفة وتلامس مشاعر المتدينين.
وفي كل الحالات فإن الحزب الوطني يتحمل الجزء الأكبر من مسئوليات البرلمان المقبل والمهام الأخري اللازمة لتفعيل الحياة السياسية, وتدارك الكثير من الأخطاء التي شابت مسيرة العمل خلال الشهور الماضية. وتتصدر مهام الحزب في المرحلة المقبلة الدعم التام لمبادرات الإصلاح, التي طرحت من داخل الحزب نفسه. فقد كانت هذه المبادرات كفيلة بالحد من ظواهر سلبية كثيرة قبل الانتخابات واثناءها.