القضاة بين الإشراف علي الانتخابات وإدارتها

وضعت المرحلة الثالثة من الانتخابات البرلمانية التي يجري إعلان نتائجها اليوم, نهاية لهذا الحدث الأهم في مسيرة الديمقراطية بمصر. والحقيقة أن المهمة الأصعب التي كشفت عنها هذه الانتخابات هي إدارتها. فبالرغم من الاهتمام الشديد الذي حظيت به من جانب الأحزاب والقوي السياسية المتنافسة, فإن البعض قد انصرف إلي دراسة إدارة عملية الانتخابات ذاتها. فقد استنفدت الترشيحات, وما صاحبها من إجراءات وتربيطات واستحداث أساليب لكسب أصوات الناخبين, معظم الجهد والوقت, بينما بقي قليل من الجهد للنظر والتفكير في العقبة الكبري التي تواجه أي ديمقراطية مهما يكن نوعها وأعني بها إدارة الانتخابات. فعلي المستوي التشريعي أقدمت مصر علي خطوتين كانتا تبشران بإدارة العملية الانتخابية والإشراف عليها بحياد كامل. حيث وضع الدستور المصري الصادر عام1971 في مادته الثامنة والثمانين الانتخابات تحت مظلة الإشراف القضائي, ولم يصبح لهذا النص الدستوري أهميته إلا في عام2000, وذلك عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكما ينص علي ضرورة وجود عضو من الهيئات القضائية في كل لجنة انتخابية, وألا يقتصر هذا الوجود علي اللجان الرئيسية, كما كان يحدث سابقا. وفي هذا العام2005 لحقت مصر بالتوجه العالمي نحو تكوين لجان انتخابية مستقلة, وتم بالفعل تشكيل لجنتين للإشراف علي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية, ومع ذلك فإن كثيرا من القضايا التنفيذية لم يحظ بالاهتمام الكافي لملاحقة هذا التطور التشريعي المهم. فلم يحظ نظام الانتخاب الفردي بما يستحقه من الدراسة في ضوء معطيات الواقع المصري, كما لم تحظ إدارة العملية الانتخابية بالقدر اللازم من التفكير والتدبر, وكان خيارنا, في سبيل إجراء انتخابات حرة ونزيهة, هو أن نعهد بالأمر إلي إشراف القضاة, دون تحديد لمسئوليات هذا الإشراف وآلياته, وهكذا وجد القضاة أنفسهم أمام مهمة إدارة العملية الانتخابية بدلا من الإشراف عليها, مع ما بين المهمتين من فوارق ومسافات. فلقد أردنا بالإشراف القضائي حل مشكلات الحياد والنزاهة في الانتخابات, ولكن هذا الإشراف, بالشكل الذي تم في الانتخابات الأخيرة, أظهر مشكلات هي الأخري علي درجة عالية من الأهمية. أيضا حينما أخذنا ببعض أشكال الممارسات الدولية, ومنها تشكيل لجنة مستقلة للإشراف علي عمليات الانتخاب, واجهتنا مشكلات أخري, فمثلا, لم تكن لدينا الاستعدادات الكافية لمواجهة أساليب العنف والبلطجة والإنفاق غير المبرر علي الدعاية الانتخابية. ولم تحظ سجلات الناخبين بالاهتمام الكافي, ولم نهتم كثيرا بأن نجعل التصويت مهمة سهلة وميسورة لمن يريدون المشاركة في هذا الحدث, الذي يحدد خطوات كثيرة في مسيرتنا المقبلة. لقد انتهت الانتخابات البرلمانية, وتحددت ملامح البرلمان القادم. إلا أن هذه الانتخابات قد كشفت لنا عن مشكلات سياسية وإدارية وتشريعية ينبغي أن نعمل جيدا علي عدم ظهورها بعد خمس سنوات من الآن, حين تدهمنا الانتخابات المقبلة فالانتخابات هي المهمة الصعبة التي تواجهها الديمقراطية, وهي أبرز أسس تنميتها وممارستها. ويجب أن نبحث عما يمكن أن نفعله للتغلب علي المشكلات المترتبة عليها. وهنا أقول بوضوح إننا لسنا وحدنا الذين واجهوا مثل هذه المشكلات فهي قائمة في كل ديمقراطية بأشكال ودرجات متفاوتة. وليس من الخطأ أو العيب أن ننظر إلي تجارب الآخرين لنري كيف واجهوا مشكلات مثلها ونعمل علي تكييف حلولهم للواقع المصري. وهذه المسئولية لاتقع علي حزب دون آخر أو جماعة دون أخري, وإنما هي مسئولية جماعية تقوم بها الأحزاب والقوي السياسية, ومؤسسات البحث العلمي, ومنظمات المجتمع المدني, وجميع الهيئات والمؤسسات بمختلف اتجاهاتها. سجال القضاة في الشارعين السيـــــاسي والإعــــــلامي | |
ولاشك أن الحديث سوف يستمر بعد الانتخابات عن بعض ظواهرها, ثم ينقضي كما جرت العادة دائما, غير أن حديثا آخر سوف يستمر, وهو ما يتعلق بالقضاة والانتخابات. فلقد جاءت الانتخابات بسجال غير مسبوق بين رجال القضاء عبر وسائل الإعلام المحلية والاجنبية, وقد دخلته أطراف كثيرة فأحالته إلي صراع يهدد المكانة العالية التي وضعنا فيها قضاتنا, حرصا عليهم وعلي الرسالة التي يحملونها في المجتمع. وأقول في هذا الصدد: إنه لا أحد يستطيع أن يمنع قاضيا من أن يعبر عن رأيه ورؤيته لما يجري, ولكن القضاة إذا دخلوا سجال الرأي, فإنهم سوف يتحملون تبعات اختلاف الآراء في وقت نعاني فيه أزمة في فقه الاختلاف ولغة الحوار, وهو ماقد ينال من مكانتهم السامية التي لانرضي لهم بديلا عنها. والحقيقة أن التوسع في تفسير النصوص القانونية والدستورية قد أحال مبدأ الإشراف علي الانتخابات إلي إدارتها, وتوسع في مهام القضاة. فالمادة رقم88 من دستور عام1971 نصت علي أن يتم الاقتراع تحت إشراف أعضاء من الهيئات القضائية. وفيما قبل عام2000 كان هناك تطبيق معتدل لهذه المادة. وكانت الانتخابات تجري علي أساس قانون مباشرة الحقوق السياسية, الذي ينص علي أن يتولي القضاة رئاسة اللجان العامة.. أما اللجان الفرعية فيمكن أن يتولاها أعضاء من الهيئات القضائية, أو الإدارات القانونية بأجهزة الدولة والقطاع العام. وظل هذا القانون مطبقا في كل الانتخابات التي أجريت بين عامي1957 و1995, ثم جاءت الممارسات الخاطئة لتثير الشك في هذا التطبيق. وبصدور حكم المحكمة الدستورية العليا امتد الإشراف القضائي ليشمل اللجان الفرعية أيضا. وفي مواجهة عدد الدوائر الذي يفوق عدد القضاة جرت انتخابات عام2000, والانتخابات الحالية علي مراحل لكي يتسني توفير العدد الكافي من القضاة لكل مرحلة. وهذا النظام لاوجود له في أي مكان من العالم, وإنما هو نظام مصري خالص تحول فيه القضاة من مشرفين علي الانتخابات إلي مديرين لها بكل ما تعنيه الإدارة من مشكلات تفصيلية وتداخلات في مناخ سياسي ساخن. تفعيل دور القضاة مع حفظ مكانة السلطة القضائية بعيدا عن المهاترات ولست أعني بعرض عيوب هذا النظام استبعاد القضاة من العملية الانتخابية بأي حال من الأحوال, ولكن ما حدث في هذه الانتخابات يجعلنا أكثر حرصا علي تفعيل دور القضاء في التحقق من نزاهة الانتخابات, وعلي أن نحفظ للقضاء مكانته. ففي كثير من الدول يقتصر دور القضاة علي عضوية اللجان العليا للانتخابات, أو يتم تشكيل هذه اللجان بكامل أعضائها من القضاة, كما يمتد دورهم إلي رئاسة وعضوية لجان الطعون الانتخابية, وفي دول اخري يتم الأخذ بنظام اللجنة العليا القضائية للانتخابات, وهي لجنة دائمة لايقتصر عملها علي فترة الانتخابات فحسب, وإنما يكون من مهامها بعد ذلك متابعة تسجيل الناخبين وتحديث الجداول الانتخابية, وكل ما يتعلق بالإجراءات اللازمة لتسهيل العملية الانتخابية وإدارتها, مثلما يحدث في الهند. لماذا يتجمهر الناس أمام اللجان الانتخابية؟ ويبقي أن أقول: إنه في إدارة العملية الانتخابية تنتظرنا مهام كثيرة يتعين علينا بحثها من الآن. ولن تكفي الضمانات التشريعية ونظم الانتخابات, في توفير مناخ آمن وهادئ لعمليات التصويت. ولابد أن نصل يوما إلي أن يكون التصويت في الانتخابات واجبا يلقي فيه الناخب الاحترام الذي توجبه المهمة التي جاء من أجلها. | |