الحدث الانتخابي

الحدث الانتخابي في مصر يتطور وينمو, ويحدث تأثيره أمام الإصرار علي مواصلة الإصلاح السياسي الحقيقي.. وقد كشفت المرحلة الأولي للانتخابات البرلمانية عن أن معدلات الأداء السياسي كبيرة, وتعطي مؤشرا واضحا علي التحول والتغيير الذي تشهده البلاد.. وهذا ليس بشهاداتنا فقط, ولكن أيضا برؤية المراقبين المحايدين والواقعيين من داخل مصر وخارجها.
وطوال يوم الأربعاء الماضي(9 نوفمبر) وقبله كانت الحملات الانتخابية لمئات المرشحين في ثماني محافظات قد بلغت أقصي حالات الترقب, انتظارا لما يأتي وما لا يأتي, وسواء أسفر هذا الترقب والانتظار عما يريده المرشحون أو ما لا يريدونه, فإن جولة من أكثر الانتخابات البرلمانية حدة علي مدي نصف قرن قد انتهت بالفوز أو الإعادة. ومازالت حياتنا السياسية في انتظار جولات أخري تستكمل بها شكل البرلمان المقبل الذي تتعلق به آمال كثيرة في استكمال مسيرة الإصلاح بأبعادها المختلفة.
والنتيجة الأولية هي أن مصر تتعافي سياسيا, وتدخل مرحلة أكثر عمقا وتطورا في برامجها الإصلاحية. كما أن النتائج, التي أسفرت عنها الجولة الأولي من الانتخابات في المحافظات الثماني, لايمكن قراءتها قراءة صحيحة إلا في ضوء الكثير من الظواهر التي طفت علي سطح الممارسات الانتخابية خلال الشهرين الماضيين. فقد فشلت أساليب كان البعض يظن أنها ناجحة, ونجحت أخري لم تحظ بالاهتمام الكافي. وهذه الأساليب جميعا ـ في ضوء نتائج الجولة الأولي ـ تعد دروسا مهمة أمام الذين يخوضون الجولات المقبلة.
وقبل أي قراءة لنتائج الجولة الأولي من الانتخابات أشير سريعا إلي بعض أبرز ما جاءت به الأحداث أخيرا فيما يلي:
أولا: الضمانات التي أحيطت بها الانتخابات بدءا من تصريحات الرئيس حسني مبارك بأن الانتخابات سوف تأتي حرة ونزيهة ومرورا بتجربة الصناديق الزجاجية والحبر الفوسفور لمنع تعدد التصويت ولتحقيق الشفافية المطلوبة وانتهاء بالسماح لمنظمات المجتمع المدني بمراقبة الانتخابات داخل اللجان وخارجها. ومع كل ذلك حاول البعض إهالة التراب علي العملية الانتخابية برمتها, وراحوا يبحثون عن مخرج لعدم تمكنهم من تحقيق ما كانوا يسعون إليه, بدلا من الوقوف احتراما لرغبة الناخبين وإرادتهم ودعم المرشح الذي نال الثقة. ففي هذا الدعم تحقيق لمصالح المجتمع, وهذا السلوك لن نتخلص منه مهما تبلغ ضمانات نزاهة الانتخابات.
ثانيا: لماذا تصبح المنافسة علي الخدمة العامة صراعا شخصيا, يتحول سريعا إلي عداوة تستحل فيها كل الوسائل والأساليب. وكلما زادت المنافسة احتدم العداء, وكثيرا ما تستمر حالة العداوة إلي ما بعد الانتخابات. وأحيانا ما تستثير صراعات الانتخابات عداوات كامنة وأحقادا كاد الزمان يطويها بين العائلات والأحزاب والقوي المختلفة؟.. إن الأسباب التي تحيل المنافسة إلي صراع وعداوة بين المرشحين تصيب التطور الديمقراطي في مقتل وتطرح كثيرا من علامات الاستفهام حول دواعي العمل السياسي العام.
والمفترض أن يخرج المجتمع من تجربة الانتخابات أكثر تماسكا, ولكن شخصنة المعركة الانتخابية تجعل المجتمع في حالة إعياء وفرقة وانقسام بدلا من أن تكون مصدرا لتجديد الصحة السياسية للمجتمع.
ثالثا: علي مدي الأسابيع الماضية ظهرت كتيبات ونشرات وخطب كثيرة تتحدث عن إنجازات المرشحين, وهي مملوءة بأقوال مرسلة وإدعاءات لا يملك الناخب بشأنها القدرة علي التمحيص والتدقيق, فالانجازات التي يتحدث عنها المرشحون تبدو في كثير من الأحيان عدوانا علي جهود مؤسسات ومصالح ووزارات حين ينسب مرشح لنفسه ما قامت به الهيئات الحكومية وفق خطة مدروسة. وليت هؤلاء المرشحين يعلنون تلك الإنجازات في إطار جهود وبرامج أحزابهم, ولكنهم يختزلون أحزابهم وخطط الحكومة وإنجازاتها في جهدهم الشخصي الذي يقومون به, ومثل هذه الممارسات تخل كثيرا بمبدأ التمثيل النيابي الحقيقي. فنحن في النهاية نختار نوابا لدوائرنا ولمصر كلها.
والحقيقة أن طلبات النواب وتوقيعات الوزراء مسئولة إلي حد كبير عن استمرار هذه الظاهرة, واستمرار ذلك ينال من الحياة السياسية. فالبرامج الحزبية الحقيقية وحدها هي القادرة علي تحقيق العدالة بين الدوائر وفق خطة محكمة, لا تسمح بتوقيعات المسئولين التي هي التفاف علي خطة الحكومة. ونحن ننادي اليوم بأن يطرح المرشحون أنفسهم في إطار برامج أحزابهم ولكن بعضهم لايفعل ذلك.
رابعا: إن الذي تعرض له الحزب الوطني طوال أسابيع الحملات الانتخابية قد بلغ حدودا بعيدة. وربما كان حجم الحزب وقوته وتنظيمه مصدر إزعاج للكثير من الأحزاب والقوي السياسية اللاعبة علي المسرح السياسي. ولكن هذه الحملات ـ فيما كشفت عنه الجولة الأولي للانتخابات ـ لم تنل من مكانة الحزب أو قدرته علي قيادة العمل السياسي في المرحلة المقبلة. فلقد استنفد كثير من الأحزاب والقوي السياسية معظم طاقته في توجيه الاتهامات للحزب الوطني, حتي لم يجد بعضها ما يقدمه بديلا عن هذا الحزب وبرنامجه, بما أثر علي هذه الأحزاب لمصلحة المستقلين والتيارات الأخري بالرغم من أن الساحة الانتخابية ظلت ومازالت مفتوحة أمام الجميع في منافسات غير مسبوقة ومستوي من الحرية لم تبلغه انتخابات من قبل, فما الذي يمنع هؤلاء جميعا من أن يطرحوا ما لديهم علي ناخب يمتلك صوته بحرية كاملة؟
ولقد سادت حملات الحزب الوطني روح جديدة فلم يعبأ بالاتهامات التي تناثرت في كل اتجاه, ولم يمارس أي ضغط علي حركة الأحزاب في المجتمع, حتي الجماعات المحظورة بحكم القانون مارست دعايتها الانتخابية بحرية كاملة, وهذه الروح التي سادت حركة الحزب الوطني خلال الأسابيع الماضية تمثل قفزة إلي الأمام لابد من الحفاظ عليها ودعمها.
خامسا: الشعارات الانتخابية التي تنتشر اليوم في طول البلاد وعرضها لا تستجيب للتغيرات التي طرأت علي الحياة السياسية أو مستويات الوعي السياسي الراهن. ولن يستجيب الناخب لشعارات يصف بها المرشح نفسه بأنه رجل البر والتقوي والطهارة والإصلاح أو الشعارات الدينية للجماعات المحظورة, أو تلك اللافتات التي تبايع هذا المرشح أو ذاك.
وقد كشفت الدراسات, التي أجريت علي الشعارات في الحملات الانتخابية عن عجز المرشحين عن مواكبة النمو في الوعي السياسي لدي الناخب, الذي أصبح أكثر تفاعلا مع قضايا وطنه, وأكثر فهما لقواعد العمل السياسي, وأكثر رغبة في الاختيار الصحيح.. ومثل هذه الشعارات لن تؤثر في احساسه بالمسئولية المتنامية في أعماقه بشأن أهمية صوته الانتخابي.
سادسا: وصل الإنفاق في الدعاية الانتخابية إلي معدلات تنذر بالخطر, وتشير الأحاديث إلي أرقام هائلة, كما أصبحت سيطرة رأس المال علي الانتخابات حديثا موصولا, ولابد من تمحيص هذه الأقاويل وصولا إلي توصيف صحيح لهذه الظاهرة, ثم البحث عن حلول لها. فإذا صحت هذه الأقاويل في دوائر, فمن الخطأ تعميمها علي الدوائر جميعها, وليس ذلك تقليلا من حجم الظاهرة, ولكنها محاولة لقياسها القياس الدقيق, حتي نصل إلي أساليب صحيحة في مواجهتها, ومن الخطر والخطأ أن تتحول الانتخابات إلي مزاد تباع فيه الأصوات للثمن الأعلي. والمسئولية هنا لا يمكن أن تقع علي الناخبين الفقراء الذين تزيد حاجتهم إلي المال علي وعيهم بأهمية الصوت الانتخابي, وإنما هي مسئولية المرشح ولابد للأحزاب من وقفة مع هؤلاء الذين يمثلون الخطر ـ كل الخطر ـ علي ديمقراطية ناشئة تتلمس طريقها الصحيح.