مقالات الأهرام اليومى

حديث الانتخابات

ليس في مصر اليوم صوت أعلي من صوت الانتخابات‏.‏ وليس علي أرضها ما هو أهم من معركة اختيار أعضاء البرلمان المقبل‏.‏ هذه المعركة التي تكتسب أهمية خاصة عن سابقاتها‏,‏ وتمثل نقلة نوعية في مسيرة الديمقراطية بمصر‏.‏

ويعكس الاهتمام‏,‏ الذي تتسع دوائره مع اقتراب بدء التصويت تغيرا ملموسا في المناخ السياسي‏,‏ ووعيا بضرورة تفعيل آليات جديدة قادرة علي التغيير نحو الأفضل‏.‏ وفتح آفاق أرحب أمام القوي السياسية المختلفة للعمل وسط جموع الناخبين وإتاحة فرص حقيقية لاختبار قدرات هذه القوي في الشارع السياسي الذي عرف الآن طريق المنافسة الحرة‏.‏

وبغض النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات‏,‏ فإن الناتج النهائي لعمليات الترشيح والدعاية الانتخابية والتصويت لابد أن يصب في مصلحة الممارسة الديمقراطية ويدفع بنا مسافات‏,‏ علي طريق تعثرت فيه خطانا كثيرا‏.‏ وبالتالي فإن المحصلة النهائية لهذه الانتخابات بالنسبة للأحزاب والقوي السياسية لن تقف عند حدود عدد المقاعد التي سيفوز بها كل حزب‏,‏ وإنما ستتجاوز ذلك إلي الخبرات والتجارب التي يمكن أن تسدد خطي الأحزاب علي دروب الممارسة والمنافسة السياسية‏.‏

وعلي رأس الدروس التي يجب أن نعيها جيدا أن الأحزاب والقوي الأخري تقترب من الواقعية السياسية التي يتعين أن تحكم التحرك الحزبي‏.‏ فالانتخابات الحالية فرصة لقياس قدرة كل حزب علي التفاعل النشيط مع المناخ السياسي السائد وطاقاته الكفيلة بحفز التأييد الشعبي له‏,‏ وفي هذا القياس فرصة حقيقية لمراجعة هياكل العمل داخل الحزب وآلياته‏.‏

الصراخ السياسي
ما بين الصراخ السياسي والعمل الحزبي المنظم تتبدي ملامح المشهد الانتخابي العام هذه الأيام‏.‏ والحقيقة الفارقة فيه هي أن القوي التي تحتاج إلي عمل حزبي منظم‏,‏ تنشط به وجودها‏,‏ قد تركت هذا الأمر ولجأت إلي كثير من الصراخ الذي تحاول به التعبير عن وجودها غير المحسوس في الشارع السياسي‏.‏ أما القوي التي تمتلك تاريخا ومقومات عمل فاعل ومنظم فقد انصرفت نحو تجديد آليات عملها‏,‏ وإعادة تنظيم تحركاتها حتي تتواءم مع المتغيرات الحالية التي تشهدها مصر‏,‏ ونحن اليوم أمام قوة تصرخ بدون ألم وتعمل في دأب ومثابرة‏,‏ وذلك في مناخ سياسي يشوبه شيء من عدم النظام‏.‏

والصراخ السياسي في المشهد الانتخابي العام بتنويعاته المختلفة يعزف لحنا واحدا هو النيل من حزب الأغلبية في رموزه ومرشحيه وإنجازاته وقدراته التنظيمية وتحركاته النشيطة‏,‏ ولكنه لايرد علي مثل هذه الصرخات‏.‏ ولو أن تلك القوي نظرت إلي ماض قريب جدا لوجدت العبرة والخبرة والتجربة‏.‏

لقد ملأ الكثيرون الدنيا من حولنا صراخا في انتخابات الرئاسة‏,‏ وكان هتاف الصامتين في صناديق الاقتراع أبلغ رد علي تلك الصرخات‏.‏ ويبدو كثير من الأحزاب والقوي السياسية اليوم أكثر اهتماما باختيار نقاط الهدم في الشارع السياسي‏,‏ أكثر من اهتمامها بإعادة تنظيم صفوفها وتوحيد جهودها والتقدم إلي الناخب ببرامج عمل حقيقية تبني شيئا في واقع يحتاج إلي آلاف الأبنية‏.‏ ويبدو أن هذه القوي قد اختارت الطريق الأقل تكلفة ومعاناة‏,‏ فما أسهل علي قوي عاجزة من أن تتربص بالقوي الأخري الفاعلة وتحملها مسئولية كل شيء‏,‏ حتي عجزها وتقاعسها عن تقديم عمل سياسي له نتائج إيجابية تنعكس علي المصلحة العامة‏.‏

سوف يعيد الناخبون المصريون الكرة تلو الكرة‏,‏ حتي تفيق هذه القوي من وهم الصراخ وتنتبه إلي حقيقة وجودها وقدرتها علي الاستجابة الحقيقية لاحتياجات شعب وآمال أمة‏.‏ فما تحققه القوي السياسية الفاعلة من تطور وتنظيم يعد فرصة أمام الجميع أحزابا وجماعات ومواطنين لمراجعة مواقفهم‏.‏ لأن ناتج عمل هذه القوي التنظيمية هو بمثابة مصدر عافية للمجتمع السياسي كله بما فيه قوي المعارضة‏.‏

وهكذا نقل الحزب الحيوية السياسية من عالم الصحافة والتليفزيون الي مواقع النشاط الفعلي

الصياغات الجديدة
وعلي جانب آخر من المشهد الانتخابي تتبدي قوة كرست طاقتها وعافيتها لعمل حزبي منظم ينهض بمسئولية كبري‏.‏ ولم يشغلها الصياح الذي لجأت إليه بعض القوي الأخري‏,‏ فانصرفت إلي عمل جاد تستشرف به مرحلة جديدة من العمل السياسي‏.‏ وأقصد بهذه القوة الحزب الوطني الذي طرح في صياغاته الجديدة تجربة تستحق الاهتمام والمعالجة الموضوعية‏,‏ بعيدا عن صراخ الأفنية المجاورة‏.‏

وهذه الصياغات الجديدة لا تعبر عن حزب جديد أو تغيير راديكالي ثوري‏,‏ ولكنها تعبر عن تفاعل حقيقي بين أسس قديمة وأفكار جديدة في إطار حزبي يحتوي من الثبات مثلما يحتوي من المتغيرات‏,‏ وفي ذلك ضمان أكيد للاستمرار والتواؤم‏.‏ ولا أحد ينكر أن روحا جديدة تسري في الحزب الوطني قد جددت ومازالت تجدد طاقاته وتدعم قدراته وتزيد فاعليته وترسخ مكانته كمحور رئيسي للحياة السياسية في مصر‏.‏

لقد بدأ استعداد الحزب للواقع السياسي الجديد في وقت مبكر‏.‏ ولم تكن شعبيته التي اكتسبها في كل الانتخابات البرلمانية التي خاضها إلا دافعا له نحو مزيد من العمل والتنظيم‏,‏ وعن طريق التفاعل النشيط داخل دوائره ظهرت رؤي جديدة تحمس لها جيل جديد فكانت تجديدا لفكر الحزب وآليات عمله‏,‏ وتكيفت مع عالم اليوم سريع التغير‏,‏ حفاظا علي حيوية الحزب وقدرته وشعبيته‏.‏ وتولي جمال مبارك أمانة السياسات به فجعلها أكثر أمانات الحزب فاعلية وديناميكية‏.‏ ولم تستند هذه الفاعلية إلي نفوذ وإنما استندت إلي قدرة حقيقية علي التنظير والتنظيم والاستجابة لاحتياجات المجتمع السياسية‏.‏

وهكذا جاءت انتخابات الرئاسة اختبارا لآلية التنظيم الجديدة وكان نجاحها مصدر دعم لمزيد من جهود التنظيم في الحزب الوطني‏.‏

ومع ظهور جيل جديد في الحزب الوطني بدأ حديث لم يتوقف من خارج الحزب حول صراع بين ما سموه الحرس القديم والحرس الجديد‏.‏ وفي ظل هذا المصطلح تم تفسير كل شيء يجري داخل الحزب الوطني‏.‏ واتخذ البعض موقفا متناقضا‏,‏ فهم ينادون بفرض الجيل الجديد‏,‏ ولكنهم وقفوا من هذا الجيل في الحزب الوطني موقفا معارضا ليس لجمال مبارك وحده وإنما لكل العناصر الشابة التي تستشرف المستقبل في فكرها ورؤيتها‏.‏ وبدا للبعض من كثرة الحديث حول صراع القديم والجديد في الحزب أنه واقع‏.‏ ولكن المتابع لما يجري بين صفوفه يري أن هناك تواصلا فريدا يحكم العلاقة بينهما‏.‏ ففي الحزب شيوخ اختزنوا خبرات طويلة عبر السنين وجيل جديد يطمح إلي تحديث الحياة السياسية‏,‏ ويمتلك قوة دافعة تمضي بالحزب صوب آفاق جديدة تحكمها متغيرات مختلفة‏.‏

ولعل هؤلاء الذين تحدثوا طويلا عن ذلك الصراع المزعوم‏,‏ يرون كيف كان التأثير متبادلا بين شيوخ الحزب وشبابه في الخطاب السياسي العام تعبيرا عن التكيف بين الأجيال‏.‏ فهناك ثوابت وضع إطارها الشيوخ‏,‏ وهي تعبر عن نفسها في خطاب الجيل الجديد‏.‏ كما اعترف شيوخ القوي السياسية اللاعبة في المجتمع‏,‏ بعد إنكار طويل‏,‏ بأن الحزب الوطني ليس حزبا أيديولوجيا ينطلق من مسلمات جامدة تتنكر لمعطيات الزمان والمكان‏,‏ وأن سياسات الحزب تخضع لحوار يجمع بين الأجيال‏.‏

ولقد شهدت الفترة الماضية تغييرا في العلاقة بين الحزب الوطني والحكومة فاختفي وصف المعارضة له بأنه حزب الحكومة‏.‏ حيث إنه لم يعد يستند إلي قوة الحكومة ونفوذها وإنما تجاوزها حتي أصبحت سياسات الحكومة وبرامجها ترجمة واقعية لبرنامجه وأفكاره‏.‏ ويعد ذلك بكل المقاييس تصحيحا لعلاقة شابها الكثير من التشوهات في الماضي‏,‏ وكان هذا التصحيح مصدر قوة للحكومة حين استشعرت وجود حزب قوي له شعبيته يدعم سياساتها وخططها‏.‏ ويمكنها من تقديم أداء متميز غير مسبوق في المرحلة المقبلة‏,‏ فتبعية الحكومة للحزب تفرض قيودا علي الخطاب الحكومي الموجه إلي الرأي العام‏,‏ ولن يكون بمقدور أي مسئول أن يعد بما لا يستطيع الوفاء به‏,‏ وسوف تختفي المبالغات في تصريحات الوزراء وسوف تبني التوقعات علي أرض الواقع والحقيقة‏,‏ فوراء الحكومة حزب يحاسبها‏,‏ ووراء الحزب ناخب يملك بصوته الحر أن يحاسبه‏.‏

الأمن النفسي
إن نظرة الحزب الوطني إلي الناخب وأهمية دوره في الحياة السياسية الراهنة والمستقبلية‏.‏ قد تغيرت تماما عبر المنافسة الحرة التي تعلي من قيمة الصوت الانتخابي‏,‏ وقد عبرت هذه النظرة عن نفسها في مؤتمرات الحزب الشعبية بكل مكان‏,‏ والتي يريد أن يصل بها إلي الناخبين أينما كانوا‏.‏

ولقد بدأ الرئيس حسني مبارك هذه السياسة الجديدة وتبعها الحزب بالكثافة التي تفرضها الانتخابات البرلمانية‏.‏ وكانت لقاءات الرئيس مع المصريين في الدلتا والصعيد مصدر إلهام بأفكار وجدها الرئيس علي وجوه الآلاف الذين لقيهم في مؤتمراته‏.‏ ويلمس المتابع للخطاب السياسي لقادة ورموز الحزب تغيرا نوعيا له أهميته‏,‏ ففي بني سويف وعابدين تحدث صفوت الشريف والدكتور أحمد نظيف وجمال مبارك بلغة واحدة قائمة علي احترام عقلية الناخب وطرح أفكار قابلة للتنفيذ والمحاسبة‏.‏ وبهذا التحرك وتلك اللغة عرف الحزب طريقه إلي الشارع السياسي والمواطن المصري‏,‏ وقدم الحزب نفسه باعتباره مؤسسة سياسية منظمة لها برامجها‏,‏ وتملك أدواتها للتنفيذ وتؤمن بأن التقدم إلي الأمام لن تصنعه خطوة واحدة بل إنه يحتاج إلي خطوات متتابعة ومنتظمة‏.‏

أيضا فإن هذه المؤتمرات والحوارات تكشف عن أن المصريين يبادلون الحزب ثقة بثقة وعطاء بعطاء‏.‏ وهذه الثقة من جانب الناخب ضرورية من أجل حفزه علي المشاركة السياسية وتحقيق الأمن النفسي له‏,‏ حين يستشعر الأمان فيما يحدث علي أرضه ضمانا لتفاعله مع الحدث السياسي الذي يرسم ـ في خطوط عريضة ـ ملامح واقعه ومستقبل أبنائه‏.‏

والحقيقة أن الحزب الوطني لم يختزل نشاطه السياسي في العمل العادي الذي تقوم به وسائل الإعلام‏,‏ وإنما عمد إلي صناعة الأحداث التي تغريها بالسعي وراءها تغطية وتحليلا وتعليقا‏.‏ وأدرك الحزب مبكرا أن معركة الانتخابات ليست معركة إعلامية يفوز فيها الأكثر ظهورا في هذه الوسائل‏,‏ وهكذا نقل الحزب الحيوية السياسية من عالم الصحافة والتليفزيون إلي مواقع النشاط الفعلي حيث التفاعل الحقيقي بين القوي المؤثرة في الحدث الانتخابي‏.‏ وهذه سابقة جديدة‏,.‏ فالحضور القوي لقادة الحزب ورموزه ومرشحيه قائم في المؤتمرات المتتابعة واللقاءات والندوات والتحركات الحقيقية‏,‏ أكثر من الظهور علي صفحات الصحف أو أمام كاميرات التليفزيون‏.‏

وما يظهر من أنشطة الحزب في وسائل الإعلام يرجع إلي القيمة الخبرية والسياسية الحقيقية لتحركات الحزب‏,‏ والأحداث التي ينظمها‏.‏ ويظل الحدث الحقيقي في كل الأحوال هو ضالة الصحفي تغطية وتحليلا وتعليقا‏.‏ وهذا التغير الاستراتيجي في أساليب الحزب يوحي بأن هناك فكرا جديدا له يستهدف واقع الحياة علي الطبيعة وليس نسخة منقولة عنها‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى