مقالات الأهرام اليومى

فتنة الانتخابات

بدأ العد التنازلي للانتخابات البرلمانية‏,‏ ومع اقترابها تتسارع التحركات السياسية المعلنة وغير المعلنة لمختلف القوي التي تخوضها‏,‏ وإذا كنا أمام معركة سياسية تحكمها اعتبارات المكسب والخسارة في حدث من المفترض أن ينهض بجزء كبير من مقدرات هذه الأمة للأعوام المقبلة‏,‏ ويدفع مسيرتها الديمقراطية علي طريق آمن وصحيح‏,‏ ومع اتفاقنا مع الرؤية الموضوعية لهذه القوي في ضرورة الاهتمام باعتبارات النجاح والإخفاق فإن المصلحة المجتمعية العامة تلزمها بأن تراعي مصلحة الوطن وأبنائه في الفوز والخسارة علي السواء‏.‏

ولتحقيق ذلك‏,‏ فإن الالتزام بالقانون والدستور يجب أن يكون منهجا للجميع‏,‏ وإذا كان كلاهما يمنع تكوين أحزاب دينية حماية لوحدة مصر وشعبها‏,‏ واعترافا بأن المصريين جميعا متدينون لا يحتكر أحد أو جماعة منهم أمر صياغة العلاقة بين دينهم ودنياهم‏,‏ فإن الاستخدام المفرط لشعارات السماء ليس سوي التفاف علي القانون والدستور والأعراف الاجتماعية المستقرة‏.‏ فالدين الإسلامي أو المسيحي أجل وأكبر من أن يستغلا لحشد التأييد لبعض المرشحين‏.‏ فهما مرجعية عليا وينبغي عدم الخروج بهما عن تلك المكانة السامية‏,‏ كما أن السماح بمثل هذه الشعارات المسيئة للأديان يمهد الطريق للفتنة‏,‏ ومن هنا فإنه يتعين علي لجنة الانتخابات أن تعني بقضية شعارات الانتخابات لقطع الطريق علي أولئك الذين أصبحت مهمتهم صناعة الفتنة في المجتمع من خلال صور اللافتات الانتخابية وما تحويه من مكائد‏.‏ والمرشحون الذين يرفعون الشعارات الدينية من أجل أغراضهم السياسية في الانتخابات الحالية هم فتنة تنذر بكثير من الأخطار‏..‏ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏.‏

إن الانتخابات وسيلة من أهم وسائل التعبير الجماعي عن قدرة المجتمع علي فرز الصالح من طاقاته وقياداته التي تسوس أمره‏.‏ وهي تعبير سياسي عن السلام المجتمعي والحفاظ عليه حين يختار الناخبون من يؤتمن علي مصالحهم ويمثلهم تمثيلا حقيقيا في صياغة التشريعات المنظمة لمختلف جوانب حياتهم‏,‏ ومن يراقب ويسدد خطي الحكومة في أداء عملها‏.‏ وإذا لم تفلح الانتخابات في تحقيق المصلحة العامة عبر منافسة تتسم بالشفافية‏,‏ فإنها تتحول إلي وسيلة تنال من وحدة الوطن ومصالحه‏,‏ وتدعم بذور الشقاق والانقسام‏,‏ وتضعف مناعة المجتمع في مواجهة آفات الفرقة والتشرذم‏.‏

وليس أخطر علي مصالح الوطن في هذه الانتخابات من تحالفات متخمة بالتناقضات الحالية والمستقبلية فشلت في تجارب سابقة‏,‏ وها هي اليوم تتجرع مرارة فشلها حتي قبل أن تبدأ الانتخابات‏,‏ وتحالفات أخري تثير صخبا سياسيا يتجاوز قدراتها الفعلية علي العمل السياسي الجاد والمنظم‏,‏ وثالثة تعاني فكرا سياسيا شديد الاضطراب تفتقر به إلي برامج تصلح لخوض الانتخابات‏.‏ وخطورة هؤلاء جميعا لا تقف عند حدود العجز في مواجهة معركة انتخابية جادة ومهمة لحياتنا السياسية‏,‏ وإنما تتبدي في الأساليب البديلة التي يلجأون إليها بهدف كسب أصوات الناخبين بدلا من الاعتماد علي فكر منظم ورؤية سياسية ثاقبة للأوضاع السياسية والاقتصادية‏.‏ ومن هذه الأساليب التعويضية تظهر سلبيات الانتخابات من إثارة تصل إلي حد العنف‏,‏ ومن عنف يصل إلي حد العدوان علي حياة الأبرياء‏,‏ ومن افتراءات وأكاذيب إلي اتهامات مرسلة تستبيح كل قيمة من قيم المجتمع‏.‏

وهناك أساليب أخري تعتمد علي العصبية والقبلية والعشائرية والنعرات الطائفية‏,‏ وهي مشاعر كامنة لم نتخلص منها بالقدر الكافي في ثقافتنا الاجتماعية‏,‏ وقد وصل استخدامها إلي حد الأبتذال للمقدسات الدينية‏.‏ وربما كانت مصر هي الأقل استجابة بين دول المنطقة للقبلية والعشائرية‏,‏ ولكن الاستخدام الكثيف لها في مواسم الانتخابات يؤجل فرص التخلص منها ونحن نسعي إلي بناء مجتمع سياسي عصري رشيد‏.‏

وفي تقديري أنه لمواجهة سلبيات هذه الظاهرة لابد وأن تنشأ في مصر هيئات انتخابية دائمة لا يقتصر وجودها علي فترات الانتخابات‏,‏ وإنما يستمر عملهاعلي الدوام للتعريف بالمرشحين والبرامج الحزبية التي يعملون في إطارها‏.‏ ومثل هذه الهيئات ضرورة لمواجهة كثير من ألاعيب الانتخابات وحيلها التي تستبيح كل شيء في سبيل مصالح ضيقة لجماعة أو طائفة أو فرد‏,‏ وهي أساليب تنطوي علي كثير من الخداع للبسطاء من الناخبين‏,‏ وممن لا تتوافر لديهم فرصة تمحيص الإدعاءات والوعود التي تنطلق بلا حدود في مواسم الانتخابات‏.‏

شعارات السماء والكذب الملعون

لقد بدأت الحياة الحزبية الحقيقية في مصر في سبتمبر عام‏1907,‏ أي منذ ما يقرب من مائة عام‏.‏ وشيئا فشيئا دخلت العقائدية إلي الحياة السياسية المصرية بتكوين الحزب الاشتراكي المصري عام‏1921‏ علي يد الماركسيين المصريين‏,‏ ثم ظهرت جماعة الإخوان المسلمين عام‏1928,‏ وبعدها جماعة مصر الفتاة عام‏1933.‏ وكان الإخوان وحدهم بين هذه الجماعات الثلاث الذين يرفضون الحزبية‏.‏ وأطلق مؤسس الجماعة قولته المشهورة لا حزبية في الإسلام‏,‏ ولذلك لم تعرف الحياة الحزبية شيئا من الدعاوي الدينية أو التخفي وراء الدين إلا بعد قرابة ثلاثة عقود‏,‏ حينما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين‏,‏ التي نشأت جماعة دعوية‏,‏ عن تحولها إلي جماعة سياسية‏.‏ وكان ذلك في عام‏1938‏ حينما أعلن مرشد الجماعة آنذاك عن أنها سوف تتحول من دعوة الكلام وحده إلي دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال‏.‏ وقد أراد بهذه المقولة أن يتحرر من فتواه القديمة‏,‏ وهكذا أصبح الإسلام بفتوي جديدة يقبل الحزبية والأحزاب‏.‏ ولم تكن الفتوي القديمة أو الجديدة إلا تعبيرا عن تغيير في استراتيجية عمل الجماعة وتدشينا لحملة تضليل مازالت قائمة حتي الآن‏.‏ فقد تغيرت الوسائل والأساليب‏,‏ أما كجماعة الإخوان منذ البداية وحتي اليوم فعيناها معلقتان بالدولة وسدة الحكم‏.‏ وانصرف اهتمامها عن أمر الدين الإسلامي فقد واجه هذا الدين خلال العقدين الماضيين وحدهما تحديات هائلة داخل بلاد المسلمين وخارجها فأين كانت الجماعة من هذه التحديات؟‏.‏ وما الذي فعلته للمسلمين في معاناتهم التي خلفها المتطرفون الذين اتخذوا من مفكريها أئمة لهم؟‏.‏ ولم تعد أنشطتها الخيرية تخفي حقيقة أهدافهم السياسية وعلي الجماعة أن تعترف بهذه الحقيقة أمام المصريين‏.‏

لقد كان التحول العلني لممارسة السياسة نذير مشكلات كبيرة تركت ظلالها علي الجماعة والعمل السياسي في مصر معا‏.‏ فقد سعت لكي تستفيد من شعبية نشاطها الدعوي في تحقيق أهدافها السياسية‏.‏ وتراجع العمل الدعوي لها‏,‏ وأصبح ما بقي منه يعمل في خدمة أغراض الجماعة السياسية‏,‏ بعد أن أغرت السياسة أتباع الإخوان بمسلكين ألحقا كثيرا من الضرر بجماعتهم وبالمجتمع‏.‏

ففي عالم السياسة دأب الإخوان علي تصوير أنفسهم بأنهم المدافعون الوحيدون عن الإسلام في مجتمع متدين لا يقبل أن يحتكر أحد ـ مهما تكن صفته ـ مهام الدفاع عن الإسلام‏,‏ أو أن يسلب أحد أبنائه هذا الدور‏.‏ وتعالت الجماعة علي مختلف مؤسسات الدعوة في المجتمع المصري‏.‏ فاختصمت الأزهر والأوقاف والطرق الصوفية وغيرها من الجهات التي رأت أنها تنازعها حقها المزعوم في النطق باسم الإسلام‏.‏ فناصبتهم العداء وفي نفس الوقت غضت الطرف عن مايفعله الارهابيون خصوم الوطن حيث تصاعد الشعور لدي الإخوان بأنهم دولة داخل الدولة‏.‏ وأغرتهم صراعات السياسة بالتحول عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلي عنف عجل بوضع نهاية لها‏,‏ بعد أن زرعت بذوره وهي تتستر وراء الدين‏,‏ ومازالت تتحمل نتائجه حتي الآن‏.‏

وخلال التجربة الديمقراطية التي سبقت ثورة يوليو لم تعترف القوي السياسية الفاعلة بجماعة الإخوان كجماعة سياسية‏,‏ ولم يسمح لأي من مرشحيها بخوض الانتخابات البرلمانية بمن فيهم مؤسس الجماعة نفسه‏.‏ ومع تطور الحياة السياسية أقدمت الجماعة علي استخدام كل الأساليب المقبولة وغير المقبولة في سبيل تحقيق أهدافها السياسية‏,‏ وبعضها لايليق بجماعة تري في نفسها وأعضائها فقط حماة الإسلام في هذا العصر‏.‏ فلم تجد الجماعة غضاضة في أن تتحالف مع قوي ناصبتها العداء زمنا طويلا‏,‏ وأخري مناقضة لها في كل شيء‏.‏ ففي عالم السياسة ربما تملي الضرورة التحالف مع الشيطان‏,‏ وفيه أيضا الغاية تبرر كل الوسائل‏.‏

لقد رفعت جماعة الإخوان شعارات السماء في كل الانتخابات التي سمح لأعضائها بالترشح فيها‏,‏ عقب تحولها من جماعة دعوية إلي جماعة سياسية ولم تستطع أن تفرق بين شعبية الداعية وشعبية السياسي‏,‏ فخلطت بين الأمرين‏,‏ وحشدت شعبية الدعوة من أجل جماهيرية السياسة‏.‏ وأصبحت الخدمات الاجتماعية التي تقدمها بمثابة وسيلة لكسب التأييد السياسي‏,‏ ومثل هذا النشاط لا يختلف كثيرا عن ظاهرة رشاوي الانتخابات المرفوضة‏.‏ فالجماعة تروج لشعبية الدعوة علي أنها شعبية سياسية جارفة لها ولأعضائها‏,‏ وقد تصور الذين اختلط الأمر عليهم أن ذلك التيار يمتلك قوة قادرة علي التأثير في الحياة السياسية المصرية‏,‏ بعد أن فقدوا التمييز بين شعبية الدعوة والداعية‏,‏ وبين جماهيرية السياسة والسياسيين في الجماعة‏.‏ واتبعت الجماعة تكنيكا دعائيا استخدم عالميا فيما بين الحربين العالميتين‏,‏ وهو أسلوب يحاول إقناع الناس بأنه إذا كان الجميع يؤيدون هذه السياسة أو تلك فلم لا تؤيدها أنت أيضا‏,‏ أو أسلوب عربة الموسيقي التي تبدأ تجوالها في الشوارع بعازف واحد أو أكثر ثم تنتهي بألوف يتبعونها‏,‏ حيث يغري الزحام بالمزيد من الزحام‏.‏ ففي كل اجتماع أو مؤتمر تحرص الجماعة علي حشد أعداد غفيرة من أتباعها وهي الأعداد نفسها والأفراد أنفسهم الذين تحشدهم في كل مكان‏,‏ لتوحي بحجم أكبر من حجمها الحقيقي‏,‏ ونفوذ لم تبلغه أبدا في أرض الواقع‏.‏

ففي كل الانتخابات التي خاضها الإخوان المسلمون في ظل رايات حزبية أو مستقلة لم تطرح الجماعة برنامجا سياسيا واحدا يستجيب لمشكلات الواقع أو طموحات المستقبل‏.‏ ولم تجد الجماعة سوي شعارات السماء ذات الفيض العاطفي الديني لكي ترفعها في مواجهة القوي السياسية الأخري‏.‏ ولم تجد هذه الشعارات صدي حقيقيا لدي جموع المصريين في كثير من الانتخابات السابقة‏.‏ فالشعار الذي ظل الإخوان يعملون تحت لوائه في انتخابات كثيرة تحول إلي نكتة سياسية في الشارع المصري‏.‏ ومن الغريب أن هذا الشعار لايزال يعلو لافتات كثيرين من مرشحي هذا التيار في الانتخابات الراهنة‏.‏ وهي إشارة إلي إفلاس يمتد من العمل السياسي الجاد إلي صياغة الشعارات‏.‏

لقد كان ترويض الدين لخدمة الطموح السياسي معبرا عن نفسه بوضوح في أحداث الإسكندرية الأخيرة‏.‏ فوراء أزمة الإسكندرية أصابع انتخابية تريد حشد جمهور من المتدينين وإثارة عاطفته الدينية إلي أقصي الحدود‏,‏ لتصبح في النهاية دعما لمرشح أو أكثر في انتخابات يواجهون فيها تحديا حقيقيا لقدراتهم وشعبيتهم وهم عزل من برامج ورؤي تستجيب لحاجات الناخبين ومطالبهم‏.‏

وإذا كنا نعتبر الانتخابات البرلمانية خطوة فعلية لترجمة الإصلاحات السياسية علي أرض الواقع‏,‏ وهناك مؤشرات هائلة لتغيير كبير في أسلوب عمل الحكومة‏,‏ وحزب الأغلبية بل وأحزاب المعارضة في التكيف مع هذه المتغيرات‏,‏ فهل تستجيب وتتكيف الجماعات التي تخلط الدين بالسياسة‏..‏ خاصة جماعة الإخوان المسلمين بتغيير منهجها وأساليبها في العمل والممارسة لتستوعب روح العصر‏,‏ وتستجيب للمتغيرات‏,‏ أم تستمر عقبة في طريق المسار الديمقراطي؟ أمامنا تجربة عملية خلال الأشهر المقبلة‏,‏ ولن يتسامح التاريخ مع من يقفون عقبات أمام استرداد الشعب لحريته واقامة ديمقراطيته الصحيحة‏.‏

بدأ العد التنازلي للانتخابات البرلمانية‏,‏ ومع اقترابها تتسارع التحركات السياسية المعلنة وغير المعلنة لمختلف القوي التي تخوضها‏,‏ وإذا كنا أمام معركة سياسية تحكمها اعتبارات المكسب والخسارة في حدث من المفترض أن ينهض بجزء كبير من مقدرات هذه الأمة للأعوام المقبلة‏,‏ ويدفع مسيرتها الديمقراطية علي طريق آمن وصحيح‏,‏ ومع اتفاقنا مع الرؤية الموضوعية لهذه القوي في ضرورة الاهتمام باعتبارات النجاح والإخفاق فإن المصلحة المجتمعية العامة تلزمها بأن تراعي مصلحة الوطن وأبنائه في الفوز والخسارة علي السواء‏.‏

ولتحقيق ذلك‏,‏ فإن الالتزام بالقانون والدستور يجب أن يكون منهجا للجميع‏,‏ وإذا كان كلاهما يمنع تكوين أحزاب دينية حماية لوحدة مصر وشعبها‏,‏ واعترافا بأن المصريين جميعا متدينون لا يحتكر أحد أو جماعة منهم أمر صياغة العلاقة بين دينهم ودنياهم‏,‏ فإن الاستخدام المفرط لشعارات السماء ليس سوي التفاف علي القانون والدستور والأعراف الاجتماعية المستقرة‏.‏ فالدين الإسلامي أو المسيحي أجل وأكبر من أن يستغلا لحشد التأييد لبعض المرشحين‏.‏ فهما مرجعية عليا وينبغي عدم الخروج بهما عن تلك المكانة السامية‏,‏ كما أن السماح بمثل هذه الشعارات المسيئة للأديان يمهد الطريق للفتنة‏,‏ ومن هنا فإنه يتعين علي لجنة الانتخابات أن تعني بقضية شعارات الانتخابات لقطع الطريق علي أولئك الذين أصبحت مهمتهم صناعة الفتنة في المجتمع من خلال صور اللافتات الانتخابية وما تحويه من مكائد‏.‏ والمرشحون الذين يرفعون الشعارات الدينية من أجل أغراضهم السياسية في الانتخابات الحالية هم فتنة تنذر بكثير من الأخطار‏..‏ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏.‏

إن الانتخابات وسيلة من أهم وسائل التعبير الجماعي عن قدرة المجتمع علي فرز الصالح من طاقاته وقياداته التي تسوس أمره‏.‏ وهي تعبير سياسي عن السلام المجتمعي والحفاظ عليه حين يختار الناخبون من يؤتمن علي مصالحهم ويمثلهم تمثيلا حقيقيا في صياغة التشريعات المنظمة لمختلف جوانب حياتهم‏,‏ ومن يراقب ويسدد خطي الحكومة في أداء عملها‏.‏ وإذا لم تفلح الانتخابات في تحقيق المصلحة العامة عبر منافسة تتسم بالشفافية‏,‏ فإنها تتحول إلي وسيلة تنال من وحدة الوطن ومصالحه‏,‏ وتدعم بذور الشقاق والانقسام‏,‏ وتضعف مناعة المجتمع في مواجهة آفات الفرقة والتشرذم‏.‏

وليس أخطر علي مصالح الوطن في هذه الانتخابات من تحالفات متخمة بالتناقضات الحالية والمستقبلية فشلت في تجارب سابقة‏,‏ وها هي اليوم تتجرع مرارة فشلها حتي قبل أن تبدأ الانتخابات‏,‏ وتحالفات أخري تثير صخبا سياسيا يتجاوز قدراتها الفعلية علي العمل السياسي الجاد والمنظم‏,‏ وثالثة تعاني فكرا سياسيا شديد الاضطراب تفتقر به إلي برامج تصلح لخوض الانتخابات‏.‏ وخطورة هؤلاء جميعا لا تقف عند حدود العجز في مواجهة معركة انتخابية جادة ومهمة لحياتنا السياسية‏,‏ وإنما تتبدي في الأساليب البديلة التي يلجأون إليها بهدف كسب أصوات الناخبين بدلا من الاعتماد علي فكر منظم ورؤية سياسية ثاقبة للأوضاع السياسية والاقتصادية‏.‏ ومن هذه الأساليب التعويضية تظهر سلبيات الانتخابات من إثارة تصل إلي حد العنف‏,‏ ومن عنف يصل إلي حد العدوان علي حياة الأبرياء‏,‏ ومن افتراءات وأكاذيب إلي اتهامات مرسلة تستبيح كل قيمة من قيم المجتمع‏.‏

وهناك أساليب أخري تعتمد علي العصبية والقبلية والعشائرية والنعرات الطائفية‏,‏ وهي مشاعر كامنة لم نتخلص منها بالقدر الكافي في ثقافتنا الاجتماعية‏,‏ وقد وصل استخدامها إلي حد الأبتذال للمقدسات الدينية‏.‏ وربما كانت مصر هي الأقل استجابة بين دول المنطقة للقبلية والعشائرية‏,‏ ولكن الاستخدام الكثيف لها في مواسم الانتخابات يؤجل فرص التخلص منها ونحن نسعي إلي بناء مجتمع سياسي عصري رشيد‏.‏

وفي تقديري أنه لمواجهة سلبيات هذه الظاهرة لابد وأن تنشأ في مصر هيئات انتخابية دائمة لا يقتصر وجودها علي فترات الانتخابات‏,‏ وإنما يستمر عملهاعلي الدوام للتعريف بالمرشحين والبرامج الحزبية التي يعملون في إطارها‏.‏ ومثل هذه الهيئات ضرورة لمواجهة كثير من ألاعيب الانتخابات وحيلها التي تستبيح كل شيء في سبيل مصالح ضيقة لجماعة أو طائفة أو فرد‏,‏ وهي أساليب تنطوي علي كثير من الخداع للبسطاء من الناخبين‏,‏ وممن لا تتوافر لديهم فرصة تمحيص الإدعاءات والوعود التي تنطلق بلا حدود في مواسم الانتخابات‏.‏

شعارات السماء والكذب الملعون
لقد بدأت الحياة الحزبية الحقيقية في مصر في سبتمبر عام‏1907,‏ أي منذ ما يقرب من مائة عام‏.‏ وشيئا فشيئا دخلت العقائدية إلي الحياة السياسية المصرية بتكوين الحزب الاشتراكي المصري عام‏1921‏ علي يد الماركسيين المصريين‏,‏ ثم ظهرت جماعة الإخوان المسلمين عام‏1928,‏ وبعدها جماعة مصر الفتاة عام‏1933.‏ وكان الإخوان وحدهم بين هذه الجماعات الثلاث الذين يرفضون الحزبية‏.‏ وأطلق مؤسس الجماعة قولته المشهورة لا حزبية في الإسلام‏,‏ ولذلك لم تعرف الحياة الحزبية شيئا من الدعاوي الدينية أو التخفي وراء الدين إلا بعد قرابة ثلاثة عقود‏,‏ حينما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين‏,‏ التي نشأت جماعة دعوية‏,‏ عن تحولها إلي جماعة سياسية‏.‏ وكان ذلك في عام‏1938‏ حينما أعلن مرشد الجماعة آنذاك عن أنها سوف تتحول من دعوة الكلام وحده إلي دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال‏.‏ وقد أراد بهذه المقولة أن يتحرر من فتواه القديمة‏,‏ وهكذا أصبح الإسلام بفتوي جديدة يقبل الحزبية والأحزاب‏.‏ ولم تكن الفتوي القديمة أو الجديدة إلا تعبيرا عن تغيير في استراتيجية عمل الجماعة وتدشينا لحملة تضليل مازالت قائمة حتي الآن‏.‏ فقد تغيرت الوسائل والأساليب‏,‏ أما كجماعة الإخوان منذ البداية وحتي اليوم فعيناها معلقتان بالدولة وسدة الحكم‏.‏ وانصرف اهتمامها عن أمر الدين الإسلامي فقد واجه هذا الدين خلال العقدين الماضيين وحدهما تحديات هائلة داخل بلاد المسلمين وخارجها فأين كانت الجماعة من هذه التحديات؟‏.‏ وما الذي فعلته للمسلمين في معاناتهم التي خلفها المتطرفون الذين اتخذوا من مفكريها أئمة لهم؟‏.‏ ولم تعد أنشطتها الخيرية تخفي حقيقة أهدافهم السياسية وعلي الجماعة أن تعترف بهذه الحقيقة أمام المصريين‏.‏

لقد كان التحول العلني لممارسة السياسة نذير مشكلات كبيرة تركت ظلالها علي الجماعة والعمل السياسي في مصر معا‏.‏ فقد سعت لكي تستفيد من شعبية نشاطها الدعوي في تحقيق أهدافها السياسية‏.‏ وتراجع العمل الدعوي لها‏,‏ وأصبح ما بقي منه يعمل في خدمة أغراض الجماعة السياسية‏,‏ بعد أن أغرت السياسة أتباع الإخوان بمسلكين ألحقا كثيرا من الضرر بجماعتهم وبالمجتمع‏.‏

ففي عالم السياسة دأب الإخوان علي تصوير أنفسهم بأنهم المدافعون الوحيدون عن الإسلام في مجتمع متدين لا يقبل أن يحتكر أحد ـ مهما تكن صفته ـ مهام الدفاع عن الإسلام‏,‏ أو أن يسلب أحد أبنائه هذا الدور‏.‏ وتعالت الجماعة علي مختلف مؤسسات الدعوة في المجتمع المصري‏.‏ فاختصمت الأزهر والأوقاف والطرق الصوفية وغيرها من الجهات التي رأت أنها تنازعها حقها المزعوم في النطق باسم الإسلام‏.‏ فناصبتهم العداء وفي نفس الوقت غضت الطرف عن مايفعله الارهابيون خصوم الوطن حيث تصاعد الشعور لدي الإخوان بأنهم دولة داخل الدولة‏.‏ وأغرتهم صراعات السياسة بالتحول عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلي عنف عجل بوضع نهاية لها‏,‏ بعد أن زرعت بذوره وهي تتستر وراء الدين‏,‏ ومازالت تتحمل نتائجه حتي الآن‏.‏

وخلال التجربة الديمقراطية التي سبقت ثورة يوليو لم تعترف القوي السياسية الفاعلة بجماعة الإخوان كجماعة سياسية‏,‏ ولم يسمح لأي من مرشحيها بخوض الانتخابات البرلمانية بمن فيهم مؤسس الجماعة نفسه‏.‏ ومع تطور الحياة السياسية أقدمت الجماعة علي استخدام كل الأساليب المقبولة وغير المقبولة في سبيل تحقيق أهدافها السياسية‏,‏ وبعضها لايليق بجماعة تري في نفسها وأعضائها فقط حماة الإسلام في هذا العصر‏.‏ فلم تجد الجماعة غضاضة في أن تتحالف مع قوي ناصبتها العداء زمنا طويلا‏,‏ وأخري مناقضة لها في كل شيء‏.‏ ففي عالم السياسة ربما تملي الضرورة التحالف مع الشيطان‏,‏ وفيه أيضا الغاية تبرر كل الوسائل‏.‏

لقد رفعت جماعة الإخوان شعارات السماء في كل الانتخابات التي سمح لأعضائها بالترشح فيها‏,‏ عقب تحولها من جماعة دعوية إلي جماعة سياسية ولم تستطع أن تفرق بين شعبية الداعية وشعبية السياسي‏,‏ فخلطت بين الأمرين‏,‏ وحشدت شعبية الدعوة من أجل جماهيرية السياسة‏.‏ وأصبحت الخدمات الاجتماعية التي تقدمها بمثابة وسيلة لكسب التأييد السياسي‏,‏ ومثل هذا النشاط لا يختلف كثيرا عن ظاهرة رشاوي الانتخابات المرفوضة‏.‏ فالجماعة تروج لشعبية الدعوة علي أنها شعبية سياسية جارفة لها ولأعضائها‏,‏ وقد تصور الذين اختلط الأمر عليهم أن ذلك التيار يمتلك قوة قادرة علي التأثير في الحياة السياسية المصرية‏,‏ بعد أن فقدوا التمييز بين شعبية الدعوة والداعية‏,‏ وبين جماهيرية السياسة والسياسيين في الجماعة‏.‏ واتبعت الجماعة تكنيكا دعائيا استخدم عالميا فيما بين الحربين العالميتين‏,‏ وهو أسلوب يحاول إقناع الناس بأنه إذا كان الجميع يؤيدون هذه السياسة أو تلك فلم لا تؤيدها أنت أيضا‏,‏ أو أسلوب عربة الموسيقي التي تبدأ تجوالها في الشوارع بعازف واحد أو أكثر ثم تنتهي بألوف يتبعونها‏,‏ حيث يغري الزحام بالمزيد من الزحام‏.‏ ففي كل اجتماع أو مؤتمر تحرص الجماعة علي حشد أعداد غفيرة من أتباعها وهي الأعداد نفسها والأفراد أنفسهم الذين تحشدهم في كل مكان‏,‏ لتوحي بحجم أكبر من حجمها الحقيقي‏,‏ ونفوذ لم تبلغه أبدا في أرض الواقع‏.‏

ففي كل الانتخابات التي خاضها الإخوان المسلمون في ظل رايات حزبية أو مستقلة لم تطرح الجماعة برنامجا سياسيا واحدا يستجيب لمشكلات الواقع أو طموحات المستقبل‏.‏ ولم تجد الجماعة سوي شعارات السماء ذات الفيض العاطفي الديني لكي ترفعها في مواجهة القوي السياسية الأخري‏.‏ ولم تجد هذه الشعارات صدي حقيقيا لدي جموع المصريين في كثير من الانتخابات السابقة‏.‏ فالشعار الذي ظل الإخوان يعملون تحت لوائه في انتخابات كثيرة تحول إلي نكتة سياسية في الشارع المصري‏.‏ ومن الغريب أن هذا الشعار لايزال يعلو لافتات كثيرين من مرشحي هذا التيار في الانتخابات الراهنة‏.‏ وهي إشارة إلي إفلاس يمتد من العمل السياسي الجاد إلي صياغة الشعارات‏.‏

لقد كان ترويض الدين لخدمة الطموح السياسي معبرا عن نفسه بوضوح في أحداث الإسكندرية الأخيرة‏.‏ فوراء أزمة الإسكندرية أصابع انتخابية تريد حشد جمهور من المتدينين وإثارة عاطفته الدينية إلي أقصي الحدود‏,‏ لتصبح في النهاية دعما لمرشح أو أكثر في انتخابات يواجهون فيها تحديا حقيقيا لقدراتهم وشعبيتهم وهم عزل من برامج ورؤي تستجيب لحاجات الناخبين ومطالبهم‏.‏

وإذا كنا نعتبر الانتخابات البرلمانية خطوة فعلية لترجمة الإصلاحات السياسية علي أرض الواقع‏,‏ وهناك مؤشرات هائلة لتغيير كبير في أسلوب عمل الحكومة‏,‏ وحزب الأغلبية بل وأحزاب المعارضة في التكيف مع هذه المتغيرات‏,‏ فهل تستجيب وتتكيف الجماعات التي تخلط الدين بالسياسة‏..‏ خاصة جماعة الإخوان المسلمين بتغيير منهجها وأساليبها في العمل والممارسة لتستوعب روح العصر‏,‏ وتستجيب للمتغيرات‏,‏ أم تستمر عقبة في طريق المسار الديمقراطي؟ أمامنا تجربة عملية خلال الأشهر المقبلة‏,‏ ولن يتسامح التاريخ مع من يقفون عقبات أمام استرداد الشعب لحريته واقامة ديمقراطيته الصحيحة‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى