الجريمة والسياسة.. في تقرير ميليس

فجر المحقق الألماني الدولي ديتليف ميليس, بتقريره الذي قدمه إلي الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في19 أكتوبر الحالي, تداعيات وتطورات سياسية وقانونية, ستكون لها آثارها البعيدة علي الاستقرار الإقليمي لمنطقتنا إذا لم تتم معالجتها في إطارها الموضوعي. وما اعنيه في هذه القضية ذات الأبعاد المتعددة, والتي تكمن في كل ثناياها مخاطر جمة, هو أننا يجب أن نستدعي كل قوي المنطق والحيدة لعدم الخلط بين ماهو سياسي في هذه القضية, وما هو قانوني. فنحن أمام جريمة وقعت في14 فبراير عام2005 وراح ضحيتها رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ذو الشعبية الجارفة والدور المتميز لبلاده وللمنطقة.
ولقد أيقظت هذه الجريمة الشعب اللبناني وقوي إقليمية ودولية عديدة وجدت فيها منعطفا خطيرا للاتجاه نحو الفوضي وكسر الخطوط الحمراء في التعامل فيما بينها. كما فجرت انتفاضة شعبية ترتبت عليها آثار سياسية وعسكرية, محلية وإقليمية ودولية, وهي جريمة كاملة بكل ملابساتها تتداخل فيها السياسة والقانون.
والحقيقة أن الكشف عن مرتكبي هذه الجريمة وتقديمهم للمحاكمة, لم يعد مطلبا دوليا فقط, وإنما هو أيضا مطلب عربي وإقليمي من أجل الاستقرار في لبنان والمنطقة, وهنا يجب إبراز الخيط الرفيع بين الجانبين السياسي والقانوني, بحيث يكون واضحا, فنحن نحتاج إلي سلامة المنطقة واستقرارها. ولذلك فلن يقبل أحد أحداثا يضار بها شعب أو نظام عربي فيتحمل أوزار جريمة لايد له فيها, فالشعوب والأنظمة بطبيعتها غير مسئولة, والأخطاء والجرائم يرتكبها أشخاص يجب أن يقدموا للمحاكمة وأن تتطهر الشعوب والأنظمة من المجرمين أو المشتبه فيهم, فلا تتستر عليهم أو تحميهم,
ولذلك فإننا نكرر دعوتنا إلي كل الأطراف, خاصة اللبنانية والسورية بضرورة مساعدة المحقق الدولي ميليس لاجلاء الحقيقة, والتحقيق في كل الشبهات التي وردت في تقريره. وإذا كانت فحوي هذا التقرير قد تضمنت أن دوافع الجريمة سياسية وأنها لم يكن لها أن تتم بدون مساعدة جهاز كبير أو التواطؤ مع الأجهزة اللبنانية, فإنه غني عن القول أن التقرير تضمن أيضا أبعادا جنائية أشار إليها بما اسماه غشا وفسادا وغسيل أموال, قد يدفع بعض الجماعات أو الأفراد إلي تنفيذ عمليات خاصة ولمصلحة أفراد وج ماعات ربما تكون خارجة عن أي سلطة برغم أنها قد تشكل جزءا منها.
ويجب أيضا أن ننوه إلي ماتضمنه التقرير من أنه كنتيجة للتحقيق حتي الآن, فقد تم اعتقال عدد من الأشخاص اتهموا بالتآمر في ارتكاب جريمة وجرائم ذات صلة باغتيال الحريري و22 شخصا آخرين. وأن لجنة التحقيق تري أن جميع الأشخاص, بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بجرائم, يجب اعتبارهم أبرياء الي أن تثبت إدانتهم.
لاشك في أن تقرير ميليس يحمل في طياته فرصة كبيرة لإجلاء الحقيقة وكشف غموض جريمة سياسية ليس في إخفائها مصلحة لمستقبل سوريا ولبنان, بل للمنطقة كلها, ويجب أن يكون استكمال التحقيق والمحاكمة فرصة أكبر للأنظمة لكي تتطهر وتلزم أجهزتها الأمنية باحترام القانون وهي أولويات لاحترام الدول وأنظمتها معا.
نعم لقد حدث زلزال إقليمي بعد جريمة مقتل الحريري يترجمه الآن تقرير ميليس وتداعياته المستقبلية, ولكنه يوفر في الوقت نفسه فرصا متزايدة للتغيير والتكيف بين الدولتين اللبنانية والسورية معا لبناء مستقبل أفضل وعلاقات جديدة تحمي الشام والمنطقة العربية كلها, وتحفظ للنظام العالمي استقراره, وتحد من الانزلاق نحو اضطرابات جديدة مملوءة بالنيران والحروب, فلاتتكرر كارثة إحتلال العراق التي تسببت فيها أخطاء وجرائم صدام حسين, وتجعلنا ندرك خطورة وجود النيران في أكثر من موقع بالشرق الأوسط, بالإضافة إلي قضية فلسطين التي مازالت مفتوحة,
وحروب الإرهاب والتطرف ومناخها المصمم لتوطين الإرهابيين والمتطرفين في أكثر من بيئة وموقع في منطقتنا الأكثر حساسية في عالمنا. فهل نعي ذلك؟.