مقالات الأهرام اليومى

شهادة محمد بن راشد.. صعود وسقوط المدن

معرض الكتاب فى القاهرة حدث ثقافى بارز لكل الثقافة العربية، ومرور 50 عاما على إنشائه يدعونا للاعتزاز بتاريخنا العريض، حتى لو تزامن مع أحداث أخرى، ازدحم بها شهر يناير 2019. فهو يشكل لنا رداً طبيعياً على صغار يعيشون بيننا، أو فى منطقتنا، استهدفوا القاهرة قبل سنوات، بكل تاريخها وعظمتها للسقوط، وجعلها مثار سخرية بين الأمم!. فاستغلوا رغبة كامنة للتغيير، وهذا حق للمصريين والشعب، وقد حصلوا عليه منذ سنوات طويلة، بدفعهم إلى الفوضى وزعزعة الأمن والاستقرار، بحرق المؤسسات الاقتصادية والتاريخية، وتدمير المؤسسات الأمنية! بل وإراقة الدماء التى لها حرمة مقدسة لدى المصريين، لا ترتكبها حكومتنا، ولا شعبها فى أى وقت، ولا تحت أى ظروف، فنحن لسنا من الشعوب الدموية، ولم تمر علينا، ولن تمر على مصر، بعون الله، أى حروب أهلية، أو دينية، أو طائفية، أو عنصرية مقيتة، كما حدث ويحدث فى غيرها.

فى يناير تتجدد القاهرة بإزالة العشوائيات، من قلبها ومن حولها، ومثلث ماسبيرو خير شاهد حى. تمر علينا الأيام، ونحتفل، ونتذكر شهداء الشرطة فى عيدهم الوطنى السابع والستين، بعد أن كنا، فى لحظة غامضة من تاريخنا، نحتفل بالمجرمين، والقتلة، والبلطجية، والشاردين، والعنصريين، ونطلق أسماءهم على شوارعنا، كما حدث فى أحياء القاهرة كمدينة نصر، والمقطم، ومدينتى الإسكندرية والسويس، وتختفى أسماء ضباطنا وجنودنا وأبطالنا، بل ونهتف بشعارات جوفاء مخيفة، عفا عليها الزمن، وكرهتها الشعوب الواعية. فى يناير نفتح أكبر جامع، وأكبر كاتدرائية فى العاصمة الإدارية الجديدة التى تجدد شباب العاصمة التاريخية، وتجعلها أكثر حيوية وقدرة، واستيعاباً للناس، وتعايشا مع العصر، ومواجهة الزحام، والضغوط، والمتغيرات القادمة فى عالم المدن الجديدة الذكية والجميلة معا، لنقولها واضحة، لكل المخربين والجماعات المتطرفة: إن مصر لن تكون مرتعا للتنظيمات العنصرية المتأسلمة أبدا، ولن تختطف هذه التنظيمات الجمال والأديان وحلاوتها، بل وطلاوتها، وحب الناس لها، لجعلها أداة للسلطة، أو الصراع عليها أو حولها، بالقهر وقمع الشعوب الحية، واستلاب حقوقها فى الحياة، والحرية، والكرامة. كانت لعبة قديمة، وتكررت فى تاريخنا بعد حريق القاهرة بواسطتهم فى الأربعينيات من القرن الماضى، ثم حدث ما حدث، أو ما أطلق عليه الربيع العربى.

تذكرت كل ذلك، وأنا أراجع كتاب الشيخ محمد بن راشد المكتوم: قصتى.. 50 قصة فى 50 عاما، يروى فيه بأسلوب أخاذ شهادة للتاريخ، تحكى أحداثا جساما مرت على الشرق العربى، نعيشها بتسلسل درامى، وكأنها مسلسل تليفزيونى منذ أحداث سبتمبر 2001 فى أمريكا، مرورا بسقوط بغداد واحتلالها وتشريد أهلها، وصولا إلى تدمير المدن السورية واللبنانية واليمنية والليبية، والفارق الوحيد بين المسلسل وما يحدث فى الواقع، هو أن الدماء التى تراق، والمدن التى تسقط، لا تراق ولا تسقط على الورق أو تظهر كمشاهد تمثيلية مصورة، لكنها تجرى حية كما الحياة، وشهودها فى الشرق أحياء، وشركاؤها معاصرون، وشواهدها واضحة.

إن مدننا وقرانا وتاريخنا وبلادنا التى تساقطت من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا هى مدن تاريخية عزيزة، أما المهاجرون البائسون والمشردون على أبواب أو فى مخيمات المدن، أو فى الملاجئ، أو فى عرض البحار والمحيطات، فيذكروننا بماضى فلسطين، ولاجئيها فى كل بقاع الأرض، بل إن كل العرب جميعا كانوا مرشحين لهذا اللجوء، ولهذا الخراب المقيم الذى تم تعميمه على الشرق، باسم الربيع الخادع، والكاذب، والمجرم.

شرح الشيخ محمد بن راشد فى كتابه القيم أسباب ودواعى سقوط بعض المدن، وصعود المدن الأخرى، روى لنا عن 13عاما فى الحكم، كيف جعل من مدينته دبى مدينة عالمية للسياحة، تستقطب رءوس الأموال، وكيف جعلها مدينة متقدمة فى سباق التحديث، وكيف أنه أراد أن يرى كل المدن العربية كمدينته دبى، لأن وظيفة الحكومات هى تحقيق السعادة للشعوب. وقدم الشيخ محمد بن راشد وصايا تحتاج للفهم، والدراسة، والتمعن، والعمل على تطبيقها، فنحن أمام قائد مفكر، وكاتب، ومن أحد أبرز النماذج القيادية فى العالم المعاصر..

مذكرات الشيخ محمد مثيرة، وخاطفة للعقل، فقد انتقلت بنا من قصته، وقصة أمه وأبيه، وجذوره، ليحكى كيف حافظوا على الاتحاد، وبنوا الإمارات المتحدة العربية، ويحكى لنا بحيادية، وبعقل محلل، ماذا حدث فى الشرق العربى فى مسلسل الحروب المتتالية، ومدى تأثيرها على حياة البشر، كما سمع ورأى وشارك. هذه المذكرات يصعب تلخيصها فى مقال، فنحن لانحتاج إلى قراءتها فقط، بل إلى هضمها وترجمتها إلى أعمال، ومشروعات على أرض الواقع، لأنها ببساطة رصدت حياة قيادة، حققت نجاحا بلا شعارات، أو خطابات جوفاء، بل بأعمال على الأرض، وبحكومة رشيدة، وشركات، ومؤسسات حققت السعادة والرخاء والأمل لشعبها فى حياة أفضل، حياة متطورة، ومشاركة للعصر الذى نعيشه، ولا نتفرج عليه، بل يجب أن تكون لنا بصمتنا العربية على مساره. وتجربة الشيخ محمد بن راشد وسنوات حكمه فى دبى، ورئاسته حكومة الإمارات، خير شاهد على قدرة التجربة العربية على الترجمة، والنجاح فى كل دولنا، ومدننا، وأقطارنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى