كيف نهزم التضخم وارتفاع الأسعار؟ إعادة ترتيب الأولويات

حان الوقت لكي نطالب البنك المركزي المصري بأن يركز اهتماماته وسياساته المستقبلية علي مكافحة التضخم باعتباره الجهة الرئيسية القادرة علي لجم ارتفاع الأسعار. وهو قادر علي هذه المهمة الثقيلة, خاصة وقد نجح خلال السنوات الماضية في إدارة أهم عمليتين للإصلاح الاقتصادي, وكانت ثمارهما كبيرة, الأولي كانت الإصلاح المصرفي.. بإصلاح هياكل هذا الجهاز برفع رؤوس أموال بنوكنا ودمج الكيانات الصغيرة.. بحيث نستطيع أن نقول بكل أمانة إننا نملك الآن في مصر جهازا مصرفيا يعمل بالمستويات العالمية, وإنه أصبح من القوة بما يجعله عصب الحياة الاقتصادية, خاصة إذا عرفنا أنه لا يمكن أن ينمو أي اقتصاد بدون جهاز مصرفي قوي وقادر. والثانية: أنه استطاع إدارة أكبر عملية تعثر اقتصادي واجهت مصر في تاريخها للقطاعين العام والخاص وصلت إلي60 مليار جنيه, وكل المؤشرات تقول إن كل البنوك اجتازت هذه الأزمة باقتدار, وبنسب مرتفعة وصلت إلي90%.. كما أن كل البنوك استطاعت في يونيو الماضي ـ كما تقول بيانات المركزي ـ تكوين مخصصات مالية لمواجهة فجوة الديون المتعثرة بالكامل.. وهو إنجاز لا نحسد عليه بنوكنا, ولكن نشيد بهذا الأداء الرفيع, فمثل هذه الأزمات في أي اقتصاد آخر تؤدي إلي افلاس اقتصاديات وخروج بنوك من السوق, وحدوث هزة اقتصادية كبيرة, ولكن كل ذلك لم يحدث في مصر.. بل نجحت عملية الإصلاح بهدوء وثقة, ومستوي أداء يتفوق علي المعايير العالمية. كل هذا يجعلنا علي ثقة بقدرة الحكومة, في حالة تعاونها مع البنك المركزي, علي لجم التضخم, وبالتالي الغلاء, وارتفاع الأسعار علي الناس وتعقيد حياتهم, حيث أكدت البيانات الأخيرة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ارتفاع معدل التضخم بنسبة23.1% من يوليو2007 إلي يوليو2008, وهي نسبة بكل المقاييس مرتفعة جدا تزعج الحكومة, وعليها أن تأخذها بالكثير من الجدية, خاصة أن هذا هو المتوسط العام, فإذا دخلنا في المتوسطات الأخري المباشرة, وخاصة علي محدودي الدخل والطبقات الفقيرة, فإن النسبة تتزايد.. فقد كشفت عن أن ارتفاع معدل أسعار الطعام والشراب وصلت إلي نسبة32.5% علي مستوي الجمهورية, وأن هذه النسبة مرتفعة في الريف عن المدن, ووصلت في الأولي إلي35.1% وفي الثانية إلي30%. نحن أمام موقف صعب.. يجب أن يتغير تجاه السياسات الاقتصادية, وأن يحدث تركيز في مجالات جديدة, وأن تتغير الأولويات.. من الممكن أن نضع سياسات جزئية, وأن نخفف من وطأة هذه الأزمة الاقتصادية بالتوسع بنظام توزيع السلع بالبطاقات, وبفتح المجمعات الاستهلاكية في المناطق الكثيفة بالعمالة ومحدودي الدخل, ولكن تظل المؤشرات الاقتصادية شديدة الصعوبة, واستمرارها في هذا المسار يجب أن يزعج الحكومة والاقتصاديين معا لسرعة التحرك لمواجهة تلك المؤشرات, ولا يمكن أن نخفي الوجه المحلي للتضخم ونكتفي بالإشارة إلي التضخم المستورد أو القادم من الخارج نتيجه الأزمة العالمية للأسعار, وإذا أدركنا أن الاقتصاد المصري قادر علي تجاوز هذه الأزمة بإعادة ترتيب الأولويات فالاقتصاد ينمو بمعدلات جيدة7.1%, بالإضافة إلي القدرة علي جذب الاستثمارات, مما يعني استمرار هذه المعدلات. وقد خصصنا الحديث عن دور البنك المركزي لأننا نطالبه في المرحلة المقبلة بتغيير أولوياته.. وأن يتحول إلي تركيز اهتماماته علي مشكلة التضخم قبل الحفاظ علي سعر صرف الجنيه ـ وقد استطاع تحقيق ذلك ـ وقبل زيادة الاحتياطيات في البنك المركزي وقد أصبحت كبيرة. وقد سألت د. أحمد جلال وهو من الاقتصاديين الكبار فقال: وإن استهداف التضخم سيجعل المركزي المصري يسارع إلي رفع أسعار الفائدة حتي يقلل السيولة من السوق. | |||||
إن الاحتياطيات النقدية لدي الدولة وصلت إلي مرحلة الأمان, ومصر لديها احتياطيات أعلي كثيرا من احتياجاتها.. بمعني أن التركيز علي مكافحة التضخم في مصر يجب أن يحتل الأولوية, سواء لدي الحكومة أو البنك المركزي, لأن استمرار الارتفاع بهذه المعدلات سيكون له تأثيرات ضارة علي مجمل السياسة الاقتصادية في مصر, بالإضافة إلي ما يمثله من أعباء علي المواطن وعلي مختلف الطبقات فقيرة ومتوسطة حتي الطبقات المرتفعة أصبحت تشعر بوطأة ارتفاع الأسعار إلي حد كبير, ولعلنا بهذا الأسلوب نبدأ مرحلة يجب أن تتوازي مع سياسة الإصلاح الاقتصادي, لعل سياسة اجتماعية تستطيع أن تحقق هدف وصول ثمار التنمية الاقتصادية لكل المصريين, ولأن الشعور بغياب سياسة اجتماعية حقيقية تجاه الفقراء وتزيد التوازن الاجتماعي سيكون له تأثير إيجابي في تطوير برامج الإصلاح نفسها, ويؤدي في النهاية الي تسارع وتيرتها لأن مشاركة الجميع ستحمل لهم مصالح متزايدة في زيادة معدلات الإصلاح الاقتصادي, وستعود عليهم جميعا بالنفع وليس علي مجموعة دون أخري أو طبقة دون ثانية, وهناك مقترحات كثيرة في هذا الصدد أهمها خدمات التعليم والصحة وتقديم خدمات أفضل خاصة للطبقة المتوسطة وبأسعار متفاوتة تلبي كل المستويات والرغبات, وأن تكون هناك أنواع متميزة من المدارس سواء التجريبية أو غيرها تقدم خدماتها التعليمية بأسعار أقل من المدارس الخاصة.. لكي تكون مؤشرا للأسعار الجديدة, يعقبها بالتالي تحسن في أسواق التعليم.. وكذلك أن تقوم هذه المدارس بمكافحة الدروس الخصوصية, التي تلتهم دخول معظم الأسر المتوسطة, لتوفر الدخل لتغطية الاحتياجات المتزايدة وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأخري. وأن ترتفع وزارة الصحة بمستوي خدماتها, وتقدمها بدرجات مختلفة وبأسعار متدرجة تلبي مختلف احتياجات ومستويات المعيشة المتنوعة, مع مراعاة الجودة وخفض الأسعار حتي نخفف من وطأة التزايد والارتفاع الكبير في أسعار جميع السلع في مصر, وحتي يشعر كل المواطنين بجزء من ثمار التغييرات الاقتصادية في مصر. والحاجة إلي تغيير الأولويات لمواجهة معركة ملحة جديدة مقبلة. وإذا كانت الدولة قد رفعت الأجور بنسبة غير مسبوقة وقدرها30% لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار السلع الغذائية محليا وعالميا, فلندرك أن هذه النسبة بالشكل الحقيقي قد ضاعت تماما, والتهمها التضخم, فالمجموعة المستهدفة بارتفاع الأجور من الموظفين الحكوميين واجهت زيادة حقيقية في أسعار سلة السلع والخدمات الموجهة إليهم, أو التي يحتاجون اليها في حياتهم اليومية بنسبة وصلت إلي38%, وعلينا أن نعترف بأن رفع نسبة30% من الدخل الحقيقي مرة واحدة للعاملين فيها لم يكن عملا سهلا, وإنما نتيجة سنوات من العمل والإصلاح الاقتصادي, كان من نتيجته أن أصبحت الحكومة قادرة علي مساعدة مواطنيها والعاملين لديها وقت الأزمة, وعلينا كذلك أن ندرك أنهم لم يستطيعوا عمليا مواجهتها فالتضخم التهم هذه الزيادة, الرقم الأسمي زاد ولكن الرقم الحقيقي انخفض بنسبة8%, وعلينا أن ندخل حساب التضخم مع ربط الدخل بمعدل التضخم. وهذا يلزمنا بمطالبة جهات التعبئة العامة والإحصاء بتقديم قياسات مختلفة لمعدل التضخم ليس بشكله العام فقط, ولكن معدل زيادة الأسعار لكل فئة من فئات الدخل في مصر حتي تكون الحكومة قادرة علي مساعدتهم بشكل حقيقي, هذا مع اعترافنا بأننا نواجه ضغوطا تضخمية كبيرة معظمها قادم من الخارج, لكن واجبنا الاقتصادي أن نكافحها وأن نكون قادرين علي مساعدة المواطن المصري علي مواجهتها باستمرار برغم كل الظروف, ومن باب أولي أن نضع فارقا بين الضغوط الخارجية والضغوط المحلية مع إعادة النظر في: السياسة النقدية بحيث يكون تركيزها ليس علي سعر الصرف أو زيادة الاحتياطيات النقدية ولكن علي التضخم فهو الأولوية الآن. عجز الموازنة للحد من مصروفات الحكومة والتقليل من اقتراضها حتي لا يشكل عبئا علي الطلب, فيكون لاحتياجات الحكومة تأثير في ارتفاع الأسعار, وأن تواصل الوزارات والمحافظات جهودها حتي لا تزاحم القطاع الخاص أو المستهلكين بشكل عام. ظاهرة عدم قيام الجهات المنتجة وشركات قطاع الأعمال العام بربط الأجور والحوافز بزيادة الإنتاج حتي لا تطرح في الأسواق نقودا تزيد الطلب بدون إنتاج حقيقي. إن ربط الأجر بالإنتاج ضرورة لتقليل معدلات التضخم والحد من ارتفاعات الأسعار, كما أن ربط زيادة الأجور بمعدل التضخم ضرورة أخري للحفاظ علي قدرة المواطن علي مواجهة ارتفاع الأسعار, وألا يسقط ضحية لأزمة ارتفاع الأسعار مما يؤدي في النهاية إلي انهيار مستوي معيشته. وإذا كان الاقتراح الأول, الذي حمله هذا المقال, هو مواجهة التضخم, وارتفاع الأسعار وعمل سياسة اجتماعية جديدة لمواجهة المتغيرات, فإن الاقتراح الثاني الذي نقدمه للسياسات الاقتصادية هو حول الاستثمار وكيفية زيادته.. وأن يكون هناك تركيز لزيادة الاستثمارات كثيفة العمالة, وأن نوجه المجتمع إلي الاهتمام بالاستثمارات الأجنبية لأهميتها في تصحيح معادلة اختلال معدل الادخار المحلي لتلبية طموحات المجتمع اقتصاديا, وأن تكون هناك دراسات تحدد نوعية الاستثمار الذي نريده, وليس كم الاستثمارات فقط, وأن نحدد خريطة استثمارية والمناطق الجغرافية التي تذهب إليها الاستثمارات, فالتنمية لا تتم بكمية الاستثمارات فقط, ولكن بنوعية الاستثمار, كذلك علينا الاهتمام بالقيمة المضافة التي توفرها الاستثمارات الجديدة وأن نضع سياسة صناعية وزراعية أو خدمية تكون انتقائية لتنمية نشاطات معينة, وذلك لتنويع عملية الإنتاج الاقتصادي, ولاختيار المشروعات ذات الميزة النسبية التي تزيد قدرة اقتصادنا, وتنمي اكتساب مهارات تكنولوجية جديدة للعاملين في مصر. بمواجهة التضخم وارتفاع الأسعار ووضع سياسات جديدة للتنمية مع سياسة اجتماعية متكاملة وجذب الاستثمارات, وتنويع عملية الإنتاج بالإضافة إلي استراتيجيات جديدة للتصنيع تستوعب العمالة المتزايدة, وتقدم إنتاجا متميزا للتنافس في الأسواق المحلية نستطيع تطوير برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي, والانتقال إلي مرحلة نمو وتطور تضع مصر واقتصادها في مكانها الصحيح. | |||||