من سـلام دارفـــور.. إلي أزمتي المعابر والأنفاق!

قلت في هذا المكان من قبل إن عام2008 سيكون عام الحصاد… حصاد نتائج أعمالنا وسياساتنا الداخلية والخارجية, التي ستبرز للجميع دورنا الإقليمي وتعزز مكانتنا الدولية, فالصورة واضحة, لا لبس فيها للعقول الواعية, والأذهان المتفتحة التي ترغب في مشاركة وطنها فرحته وكبرياءه, وتعمل من أجل مصلحته العامة, وتعلي مصلحة أبنائنا ومستقبل أحفادنا. لقد استهلت مصر عامها الجديد بعدد من التطورات السياسية عميقة التأثير دوليا, وقد ارتفعت معها الروح الوطنية وتعززت مكانة الوطن, وشهدت البلاد تطورات, حملت بين طياتها صحوة الضمير اليقظ الذي يصنع النهضة المصرية الحديثة. وأول هذه التطورات كان في منطقة الهايكستب في اليوم الثاني من العام الجديد, حين وقف الرئيس حسني مبارك ومعه العسكرية المصرية في موقف مهيب, يعبر عن روح هذا الوطن من الانضباط والكبرياء والجدية, وقد شاركه الأخ معمر القذافي قائد الثورة الليبية في وداع قوة عسكرية مصرية في طريقها لحفظ السلام والاستقرار في دارفور بغرب السودان, ذلك الإقليم الذي أنهكته الصراعات الداخلية الطويلة والمتلاحقة. ولعلنا نذكر أن الرئيس حسني مبارك كان قد أشار في قمة الساحل والصحراء في يونيو عام2006, إلي إيمان مصر بانتمائها الإفريقي الأصيل, وبأنها جزء من محيطنا الإفريقي الأشمل, وأن مستقبل القارة يظل دائما في أيدي أبنائها, ولأن الإنسان هو لبنة البناء الأساسية للأوطان, فلقد حرصت مصر منذ لحظة تفجر أزمة دارفور علي حل الخلافات والتوتر بين أبناء الشعب الواحد, في سياق مصري ثابت, يعمل علي حل مشكلات المنطقة المعقدة بالصبر والحكمة والجهد الصادق والنصائح المخلصة, وتفعيل آليات التشاور بين قادة وزعماء الدول العربية, وقد اتضح ذلك خلال تحركات الرئيس مبارك في قمة الخرطوم في مارس2006, التي جاءت بمثابة قراءة متعمقة لاقتراح رئيس مصر بتفعيل الدور العربي في مواجهة الأحداث الإقليمية والعربية المتلاحقة. ولقد ادركت مصر منذ وقت بعيد أن استمرار هذه النزاعات لن تكون نتيجته سوي تفكيك السودان, وأكد الرئيس أكثر من مرة حرص مصر علي تحقيق السلام في دارفور, لأنه عنصر رئيسي في تحقيق السلام الشامل في السودان. ولهذا فقد عملت مصر علي تكثيف اتصالاتها بحكومة الخرطوم وزعماء الفصائل في دارفور, ومواصلة حماية هذا البلد الشقيق برفضها التدخل الخارجي في شئونه أو فرض عقوبات عليه, وأخيرا وفي إطار حرص مصر المتواصل علي أمن وسلامة المنطقة, كان قرار الرئيس مبارك بمشاركة قوات مصرية في عمليات حفظ السلام في إقليم دارفور.. قوات يحمل أبناؤها ـ كما أشار الرئيس ـ في قلوبهم شرف العسكرية المصرية وهيبتها التاريخية العتيدة, وتشارك بجهدها وخبرتها في أكبر عملية لحفظ السلام في العالم وقوامها نحو20 ألف جندي و6 آلاف شرطي ومدني, من الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في رسالة عملية جديدة للتضامن مع أشقائنا السودانيين في الغرب, لم تكن الأولي, فقد تواجدنا في مهمة مماثلة في جنوب السودان منذ عامين ونصف العام لمراقبة تنفيذ اتفاق السلام بين الشمال والجنوب لنساعد في إيقاف أطول حرب أهلية في تاريخ إفريقيا.. استنزفت السودان في أرواح أبنائه ومواردهم وثرواتهم. وكان التطور الثاني المهم حول المعابر بين الحدود المصرية والفلسطينية, حيث تم فتح معبر رفح أمام الحجاج الفلسطينيين لكي يعودوا إلي غزة, في لفتة إنسانية بارزة من مصر ورئيسها, وهي لفتة كانت متوقعة ومنتظرة, فهذه كانت شيم الرئيس حسني مبارك دائما, حيث يهب لتقديم العون وتذليل الصعوبات أمام أي إنسان, فما بالنا بحجاج بيت الله الحرام من الفلسطينيين, لقد كان المتوقع بالفعل أن يصدر مبارك توجيهاته بفتح المعبر أمام الحجاج العائدين من مكة المكرمة, لكل الفلسطينيين دون النظر إلي انتماءاتهم ولم يكن القرار لمصلحة حماس أو فتح, بل جاء لجميع الفلسطينيين احتراما لعقائدنا ومقدساتنا, وكما كان الوضع دائما, فقد اتسمت من جديد السياسة المصرية, بأنها سياسة الأفعال لا الأقوال.. سياسة الرؤية الواضحة الشاملة, التي تضع دائما حساباتها بناء علي رؤية تستشرف المستقبل وترصد الواقع بكل دقة وحكمة.. رؤية مستقيمة مباشرة تحقق الهدف, ولا تتواني للحظة عن لعب دورها الإقليمي الفعال, دون أن تمس ولو للحظة مصلحة أبناء الوطن, الذين تظل مصلحتهم في مقدمة اعتباراتها, بعيدا عن المزايدات والخطب الطنانة, فالموقف المصري يأتي دائما بعد دراسة متأنية وبقرارات تستقي الحكمة والدقة في مختلف أبعادها. إن مصر التي رفضت من قبل انقلاب حماس علي السلطة الشرعية في غزة, هي نفسها التي رفضت محاصرة أبناء غزة, ترفض أن تعاقب الشعب بجريمة فصيل أو سلطة, مثلما فعلت مع السودان في الماضي, وأعلنت رفضها معاقبة الشعب السوداني بجريرة اعتداء بعض الموتورين من الإرهابيين والمتطرفين علي موكب الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا, وكانت رؤيتها حماية الشعب أولا, ومصلحة السودان ثانيا, وهذه هي أولويات السياسة المصرية التي أرساها الرئيس, وهذا هو مبارك لمن يختار تجاهل الحقائق وإغماض العين عن سماحة رئيسنا المشهود بها من الجميع. أما ثالث التطورات السياسية المهمة التي طالعتنا مع بداية العام الجديد, فكان السياسة التي اتبعها الرئيس في إخماد زوبعة الأنفاق التي فجرتها وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني, أو التي وقعت فيها بتأثير من عضو الكنيست يوفال شطاينتس من حزب الليكود, ورئيس اللوبي المناهض لمصر في إسرائيل, وربما كان العضو الوحيد في هذا اللوبي, فلقد تحدثت ليفني عن الدور المصري للسلام, ولكنها سرعان ما وقعت أسيرة للتطرف, فكسرت الخطوط الحمراء, وتأثرت بمزايدة عضو اللوبي الراديكالي, أو لعلها زايدت عليه, لا نعرف, وهذه التصرفات في المحصلة النهائية أخطاء سياسية فادحة لا يمكن أن تتركها مصر تمر بشكل عابر دون انتباه وتوضيح, ومن هنا وضع الرئيس مبارك النقاط علي الحروف في حديث صريح وواضح, حتي لا تتكرر مثل تلك الأكاذيب والادعاءات السياسية الساذجة التي تتأثر بالتطرف وتعتمد علي المغالطات, والتي كانت وراء محاولات أعضاء اللوبي الموالي لإسرائيل في واشنطن, التأثير علي العلاقات المصرية ـ الأمريكية, حيث أقحموا ملف المساعدات الأمريكية, باعتباره أداة ضغط سياسي, وهو أسلوب مرفوض تماما, وفي ذلك أكد الرئيس أن مصر لا تقبل الإملاءات, وأن تلك المساعدات ليست مصلحة مصرية فقط, ولكنها مصلحة مشتركة للجميع, وأكد رفضه منهج وزيرة الخارجية الإسرائيلية في إقحام العلاقات المصرية في متاهة من المزايدات السياسية الإسرائيلية الداخلية, وأجوائها المملوءة بالتنافس الضاري علي مناصب الحكومة الإسرائيلية ومقاعد الكنيست. ولقد تجاوز الدرس المصري الذي قدمه الرئيس مبارك, تصريحات ليفني, وصار موجها للأحزاب الإسرائيلية بمختلف أطيافها, لإرساء أصول التعامل في العلاقات السياسية الحساسة, التي تحمل أهمية استراتيجية في منطقتنا, وتمس بشكل مباشر الاستقرار الإقليمي كله. وبدا جليا أن إسرائيل وزعماءها استوعبوا الدرس المصري جيدا, وهو ما يحسب في تاريخ المنطقة, والعلاقات السياسية بها. وبالعودة إلي حديث الرئيس مبارك لصحيفة’ يديعوت أحرونوت’ الإسرائيلية, نكتشف عمق وقوة وحجة الموقف المصري القائم علي معلومات صحيحة, ورؤية دقيقة لطبيعة العلاقات مع إسرائيل, فمصر تقوم بدورها الفعال والراسخ, مستخدمة تلك العلاقات لمصلحة قيام الدولة الفلسطينية وتحقيق الاستقرار في المنطقة. وقد كشف الرئيس في حديثه للصحيفة الإسرائيلية عن حقيقة حجة الأنفاق, مشيرا إلي تاريخها القديم الذي يعود إلي عام1967, عندما احتلت إسرائيل غزة, ولم تقم بسد تلك الأنفاق التي حفرتها من الجانب الذي كان تحت سيطرتها, وقال إن مصر نجحت بالفعل في تدمير160 نفقا, وضبط عشرات الأطنان من الأسلحة والمواد التخريبية والقنابل والعتاد العسكري, وأن الوضع الحالي للتهريب يتم في الأساس عبر البحر وليس عن طريق سيناء, ولم يكشف الرئيس كل المعلومات, خاصة حول عمليات تهريب السلاح, ولم يتحدث عن الصفقات الهائلة التي تتم حولها, فالسلاح المهرب من غزة يأتي من الشمال والجنوب والخليج, ومن أماكن يصعب تخيلها. | |||||
لقد حذر الرئيس مبارك زعماء إسرائيل من استخدام علاقاتهم معنا في اللعبة السياسية الداخلية التي تتم بينهم, غير مدركين طبيعة الوضع السياسي الحرج لسيكولوجية العلاقات, وأنه غير مسموح باستخدام هذا الأسلوب المرفوض من الوزيرة الإسرائيلية, حتي ولو كانت قد استدرجت إليه, فليفني تسعي ـ كما هو معروف ـ لزعامة الليكود أو كاديما أو غيرهما, وكان الدرس المصري واضحا بأنه من غير المسموح أن يكون الطموح السياسي الإسرائيلي مبررا لاستخدام أسلوب المزايدات علي سمعة مصر ومكانتها. وتبذل مصر أقصي طاقتها دوما من أجل القضية الفلسطينية, وتسعي للوصول إلي حلول وسط مرضية لطرفي النزاع الفلسطيني والإسرائيلي وهي تعمل بمقتضي هذه الرؤية, ولكن هذا لا يمنع التطرف الإسرائيلي في معظم الاحيان سواء في مواقف إسرائيل أو خطابها السياسي, فقد بات التطرف سمة بعض القادة الإسرائيليين, فيظنون أن في إمكانهم التأثير في سمعة ومكانة مصر, أو الضغط عليها لتغير توجهها, بحيث تتحرك في اتجاه حل لا يلبي الحد الأدني من الحقوق الوطنية الفلسطينية, وهذا هو جوهر الخلافات. إن الخلاف الراهن مرتبط بعدة متغيرات, منها سيطرة حماس علي قطاع غزة منذ منتصف يونيو الماضي, فقد تصورت إسرائيل أنها يمكن أن تقنع مصر بالمشاركة في محاصرة حماس, متناسية أن هذا يعني إسهام مصر في خنق مليون ونصف مليون فلسطيني, وهذا ضرب من الجنون لا تقبله مصر التي تقف في المقام الأول في صف حقوق الإنسان, بعيدا عن التشدق الذي تجيده بعض المنظمات الغربية, وبرغم الأهمية الإنسانية لحماية أبناء غزة المحاصرين, فإن المسألة تشتمل أيضا علي دور مصر والتزاماتها, وأهداف سياستها الخارجية, ورؤيتها لمستقبل المنطقة, من خلال إعطاء الأولوية للسلام والحوار وليس للحرب والحصار. وتدرك مصر أن استئناف الحوار الفلسطيني ضرورة للسلام, ومن الضروري تجاوز ماحدث في غزة بالحوار مع الفصائل. وتؤكد مصر أن التخريب الذي تسعي إسرائيل إلي ممارسته يهدف إلي تكريس الشقاق بين الضفة وقطاع غزة, وهو أمر سينتقل إليها آجلا أو عاجلا. أما المزايدات داخل الائتلاف الإسرائيلي, فهي لاتعنينا ولاتخصنا, فهناك مثلث يشمل كاديما حزب رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية, وحزب العمل بزعامة باراك, الذي زار مصر الأسبوع الماضي, وأحزاب أخري يمينية متطرفة. والواقع أن هناك عدة محددات لهذا الوضع الشائك أوجزها فيمايلي: | |||||
* الطريق لحل الأزمة الفلسطينية يبدأ بالتراجع عن نتائج الحسم العسكري في غزة والاحتكام لإرادة الشعب في انتخابات ديمقراطية عامة. * لن تسمح مصر بأن يموت الفلسطينيون جوعا أو بنقص العلاج والغذاء. * في إسرائيل لوبي له مصلحة دائمة في إثارة الأزمات مع مصر. * وفيها أيضا تيار يدعو للتخلص من عبء غزة وإلقاء مسئوليتها علي مصر. * إن مصر تقاوم التهريب لأنه يهدد الأمن القومي المصري, ومن المعروف أن الحل النهائي هو أن تعترف إسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني, وأن تكون حكومتها قادرة علي الوفاء بالتزامات السلام والاعتراف بحق الشعب وقيام الدولة الفلسطينية المرتقبة. هذه هي أبرز الدلالات والتطورات السياسية الإقليمية ودور مصر المتوازن والقوي مع كل الأطراف ومؤشراته التي برزت مع بداية عام2008. ويبقي أن نشير إلي أهمية زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي للقاهرة, حيث وضعت قضية لبنان موضع الاهتمام عن طريق التحرك لحل مشكلة الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس لبناني جديد, ثم يجيء الاجتماع المرتقب الذي دعت إليه مصر والسعودية لمجلس وزراء الخارجية العرب, لصياغة موقف عربي موحد يساعد ويدفع الأطراف اللبنانية المتصارعة علي وضع مصلحة شعبهم أولا, وإنهاء الصراعات والتجاذبات السياسية الداخلية. وإذا تناولنا التطورات المرتقبة, فإن زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش المقبلة إلي المنطقة, ستكون محطتها المؤثرة هي القاهرة, لتقول مصر كلمتها المنتظرة في كيفية مواصلة العمل لحل المشكلة الفلسطينية بشكل عملي يضمن قيام الدولة وعودة اللاجئين واسترداد القدس الشرقية, ويعيد الحقوق إلي أصحابها. وكذلك الرؤية الصحيحة لإنقاذ المنطقة العربية من تصاعد حدة الحروب والنزاعات السياسية بعد حربي العراق وأفغانستان, وتداعيات الحرب علي الإرهاب, التي وضعت المنطقة العربية والشرق الأوسط في فوهة بركان واضطراب وحروب لم يشهدها العالم منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. | |||||