الانتخابات البرلمانية.. والإصلاحات السياسية

ففي الوقت الذي سقطت فيه كل التجارب المحيطة بنا وتحولت إلي صراعات, وبؤر للتوتر, سواء في العراق وإيران, أو حتي في الشام, نري التجربة المصرية قادرة يوميا علي تقديم صورة متكاملة, تؤكد قدرتها ومكانتها, فمصر لم تثبت قدرتها في السلام وحده, ولكن أثبتت فعاليتها وصحة رؤيتها في كيفية محاربة الإرهاب والتطرف دون الانزلاق إلي الفوضي, أو حتي بسن قوانين استثنائية طويلة المدي, بل لجأت إلي تصحيح المفاهيم والثقافات للجماعات المتطرفة, وعملت علي إعادة دمجها في المجتمع بأساليب حديثة ورؤي متطورة.
والحقيقة أن انتخابات الرئاسة كانت نقطة تحول جذري في النسيج السياسي, وأكدت أن صناديق الاقتراع قادرة علي التعبير عن نبض الشارع بكل اتجاهاته, مادام يعبر عن نبض الشارع المصري ومن هذا المنطلق علينا أن نصحح رؤانا وخطواتنا, ونحن نستعد للانتخابات البرلمانية, كما أن أحزابنا السياسية مطالبة بمواجهة التحديات المقبلة, وإعادة توحيد صفوفها, وجمع شتاتها, والاستعداد خلال شهرين تقريبا للدخول في حلبة منافسة جديدة علي عضوية مجلس الشعب ومن المعروف أن المؤسسة التشريعية هي التي تكشف قدرة الأحزاب ومكانتها في الشارع السياسي, فهذه المؤسسة تؤكد أن الانتخابات المقبلة سوف تحتل وزنا كبيرا في الداخل وفي الخارج.
ولأن التعديلات الدستورية الأخيرة قد حددت نسبة5% من مقاعد مجلسي الشعب والشوري, يتعين علي كل حزب الحصول عليها للاعتراف به في المجتمع السياسي, وتقديم مرشحين له في انتخابات الرئاسة للانتخابات المقبلة, فمقياس الوجود في البرلمان عامل سياسي لنجاح الحزب, والاعتراف الشعبي به, وبالتالي التخلص من الأجسام أو الأحزاب الهامشية, ولأن الشارع المصري أصبح متشوقا للحوار, ومقتنعا بأهمية الحراك, ولم يعد يقبل حالة الجمود السياسي التي هيمنت علي أجوائه من قبل, فإنه يجب أن نتكيف جميعا مع تلك التطورات, فمثلا حزب الأغلبية, الحزب الوطني, عليه أن يطور مؤسسته, ويحافظ علي مركز قوته, أما منافسوه فعليهم أن ينتقلوا إلي مرحلة التعاون والتنسيق, وليس التشرذم أو التفتت, علي أن تعيد جميع الأحزاب دراسة أوضاعها الداخلية, وتنظيم صفوفها, وتغيير خطابها في ضوء التجارب المستفادة من الانتخابات الأخيرة.
إننا نري اليوم حالة من الصراعات وتصفية الحسابات, ولغة خطاب وتحليلات تفتقر إلي الاستقرار, أو الاستنباط, أو القراءة الدقيقة لظروف المعركة الرئاسية الأخيرة وإذا كنا نسعي إلي الحفاظ علي الحيوية السياسية وعافيتها, فعلينا أن ندرك أنها صنيعة لاعبين سياسيين أصحاء, وكيانات سياسية قادرة علي المنافسة, بالتعاون مع بعضها, والتقدم بمسيرة المجتمع وتوسيع فرص المشاركة السياسية من خلال رؤي وبرامج متنوعة.
فالأحزاب التي تطالب بحقوقها وتدافع عنها في إطار الممارسة الصحيحة للديمقراطية عليها أن تعطي أعضاءها الحق نفسه في اختيار قياداتها وحماية هذه الأحزاب من الانهيار, وإذا ما فشلت الأحزاب ـ لا قدر الله ـ فإنها سوف تؤثر بل تهدد تجربتنا الديمقراطية بأكملها وتضع العراقيل في طريق, مازلنا في بدايته, فلقد سيطرت علي حياتنا الحزبية في الأسابيع القليلة الماضية حالة من تصفية الحسابات والانقسامات وتعارض المصالح, وضعف البني السياسية والفكرية والطموحات الشخصية وضعف الرؤية المستقبلية وغياب الروح والثقافة الديمقراطية بتحميل مسئوليات الفشل للآخرين, ووقع النصيب الأكبر من مسئولية الفشل علي الحزب القوي, وتعرضت مراكز ثقلة وفاعليته للهجوم في محاولة لإضعافها جماهيريا, وعلي الطرفين المنتصرين والمهزومين معا ألا يتأثرا, بل عليهما أن يأخذا بنصيحة الرئيس مبارك في أول خطاب له, حيث قال إنه لا يوجد منتصر ولا مهزوم, فمصر هي المنتصرة والتجربة الديمقراطية هي المستفيدة, وعلي الجميع أن يبنوا خططهم للمستقبل.
إن النظام الديمقراطي لا يقام بحزب واحد قوي, ولكنه يحتاج للأحزاب المتنافسة القوية فيصحح المناخ السياسي, ولجوء الأحزاب إلي تغيير الائتلاف مع تغيير خطابها يعد عملية حيوية لمصلحة التجربة الديمقراطية, حتي لا نجعل الآثار السلبية للانتخابات تعصف بالتجربة أو تؤثر فيها.
وأنقل هنا للأحزاب واللاعبين السياسيين ما سمعته من الكثير من المراقبين السياسيين, سواء كانوا أمريكيين أو أوروبيين, حيث يرون أن معظم الإدارات الخارجية, خاصة الأمريكية منها, حرصت علي عدم الإفراط في الإدلاء بتصريحات بالنسبة للانتخابات المصرية, لمعرفتها بحساسية الشعب المصري تجاه التدخل الخارجي في شئونه الداخلية, ولكن معظم الرؤي الخارجية للأمريكيين والأوروبيين قد أكدت أن التجربة الانتخابية المصرية هي تطور إيجابي كبير, وأن حملات المرشحين التي اتسمت بالسخونة والجدل, كانت أمرا مشجعا للغاية, وأنهم أصبحوا مقتنعين أكثر من أي وقت مضي بصحة الرؤية المصرية, وأن ما تشهده مصر الآن يؤكد أن المصريين هم الذين يقررون قواعد اللعبة بأنفسهم, ويشعرون أن لديهم القدرة علي تحديد المرشح الذي يرغبون في انتخابه.
![]() |
إنني أنقل ذلك من محاضر وتقارير عن انتخاباتنا تشير إلي أن الأحزاب والمنظمات غير الحكومية, وكذلك القضاة هم الذين يطرحون القضايا المهمة للنقاش, وأن الإصلاحات الأخيرة كانت كافية ـ ولكنهم يطالبون بالمزيد, كما نطالب نحن بذلك, ولم ولن نتوقف عن المطالبة به.
كما أنقل أيضا رؤية غربية ـ أتفق معها ـ وهي أن أبرز التحديات التي تواجه مصر الآن, هي ضعف أحزاب المعارضة, وعدم وجود طرف قوي يمكنه المنافسة, أما بالنسبة للأحزاب الدينية والحركات المرتبطة بها, فإن الرؤي السياسية بعدم السماح بقيام حزب ديني في مصر, هي لمصلحة وتدعيم التجربة الديمقراطية نفسها, ونموها المستقبلي مع السماح للجميع بأن ينقلوا لوسائل الإعلام وللمرشحين وللقوي السياسية المختلفة وجهات نظرهم, فهذا أسلوب ديمقراطي مبتكر يدمج هذه الرؤي في النظام السياسي ولا يهمشها, ويتلافي الأثر السلبي الذي يترتب علي ظهور أحزاب دينية في المجتمع وهو مايؤثر علي التجربة السياسية الوليدة.
ولعلنا نشير هنا إلي أن معظم التقارير والدراسات تؤكد أن أهم ما نتج عن الانتخابات هو إيجاد حالة من الديناميكية في حياة مصر السياسية بعد سنوات طويلة من الركود وتركز هذه الدراسات علي الإجراءات المصاحبة لعملية الانتخاب, وبالتحديد السماح لأحزاب المعارضة بالحديث عبر وسائل الإعلام الرسمية, وكذلك منح الحرية لهم لعقد المؤتمرات والتجمعات الانتخابية ليوجهوا فيها ما يشاءون من انتقادات للرئيس مبارك وحكومته دون أن يتعرضوا للمضايقة أو العنف من جانب قوات الأمن.
ولقد انتقدت الصحف, خاصة الأمريكية, الانتخابات الرئاسية, وخصوصا فيما يتعلق بقصر فترة الدعاية الانتخابية, وتحيز الصحف القومية لمرشح الحزب الوطني وتسخير بعض الأجهزة الحكومية للدعاية للحزب الحاكم, وما تبين من فوضي في جداول الناخبين أو محاولات البعض الإشارة إلي بعض الرشاوي للناخبين للإقبال علي التصويت وبقاء نسبة المشاركة منخفضة برغم ذلك.
وإذا كانت الصحف الأمريكية قد فعلت ذلك فإننا جميعا في صحفنا قد انتقدنا بعض التجاوزات وطالبنا بالتصحيح, وأتوقف أمام رأي كاتب أمريكي تخصص في نقد الحكومة المصرية في صحيفة الواشنطن بوست, وهو جاكسون ديل, حيث قال إن الحملة الانتخابية في مصر كانت مثيرة بالفعل, وللمرة الأولي منذ نصف قرن نري أحزاب المعارضة تعقد اجتماعات جماهيرية دون أن تتعرض لمضايقات, وقد نقل التليفزيون المصري انتقادات حادة للرئيس مبارك وحكومته كما وجدنا علي الجانب الآخر قيام الرئيس مبارك بحملة انتخابية مدروسة وكان أمرا مثيرا أيضا, لم يعهده المصريون أن يطلق مرشح الوطني تعهدات باتخاذ المزيد من الإصلاحات الديمقراطية في حالة نجاحه بما في ذلك سلطات الرئيس نفسه, وسلطات مجلس الشعب وترسيخ استقلال القضاء ومراجعة العمل بقانون الطواريء.
والخلاصة هي أن التغييرات السياسية التي حدثت في مصر سوف تستدعي منا التوقف أمام المستقبل القريب خاصة بالنسبة للانتخابات البرلمانية المقررة في نوفمبر المقبل وعلينا أن ندرك تأثيرها علي أوضاعنا الداخلية وعلي حركة الاستثمارات والنمو الاقتصادي وجذب المستثمرين في الخارج, والأهم علي مكانتنا وتأثيرنا السياسي في إقليمنا باعتبارنا الدولة النموذج.
وهذا يتطلب لغة خطاب جديدة من كل الأطراف.. من الحزب الحاكم ليرفع كفاءته ويقوي الأحزاب الأخري, ومن الأحزاب الصغيرة التي ينبغي عليها أن تتكاتف وتدخل المعركة البرلمانية بإصلاحات داخلية مهمة والتنسيق مع بعضها, حتي تحافظ علي قوتها الداخلية ولا تبددها ونحن نريد أن نري برلمانا جديدا يضم حزبا قويا ومعارضة قوي وتمثيلا لكل الأحزاب والقوي السياسية داخل البرلمان.
وإذا كان النظام الانتخابي الحالي, والمستند إلي الانتخابات الفردية به قصور وله تأثير سلبي علي الأحزاب ولعدم قدرتنا علي تغييره أو تعديله في ظل الوضع الدستوري والقانوني الحالي, فإن تلافي الأثر السلبي يقتضي التنسيق والتعاون مع الأحزاب الشرعية, فهذا لا يعيب ولا يقلل من قدرة الأحزاب الكبيرة أو الصغيرة معا, ولكنه قد يكون دليلا عمليا علي الوعي والقدرة السياسية للنخب والأحزاب علي التكيف مع الأوضاع حتي في سلبياتها ومعالجة الاختلالات بروح مبتكرة واقعية حتي يقوي النظام السياسي المصري ويزداد رسوخا ومكانة.
وعلينا أن نركز في مراحل التطور وخلال عملية البناء السياسي الداخلي والإصلاحات السياسية, علي مكانتنا الداخلية وسمعتنا الخارجية لتأثيرهما المباشر علي قدرتنا وعلي ديناميكية الإصلاح ومستقبلها بدلا من انشغالنا بمنافسات صغيرة داخليا لا تؤثر علي قيمتنا المستقبلية, وتطور ونمو وسرعة حركتنا, فمستقبل الوطن وسمعته أهم من مصالح ضيقة لأشخاص أو أحزاب إننا جميعا أمام مرحلة قياس دقيقة لكيفية إعلاء مصالح الوطن ومصالح الأحزاب أو الأفراد وإعلاء قيمة الإصلاحات واستمرار نموها, ويجب أن تحتل هذه الأهداف الأولوية في أجندة كل الأحزاب المصرية ومؤسسات المجتمع المدني, بل والحوار الداخلي ولغته وهكذا نؤكد وعينا وقدرتنا علي تحقيق مانطمح اليه.
ولاشك أننا ندرك صعوبة العملية السياسية وإصلاحاتها ومخاطرها فهي أصعب وأدق حتي من عملية البناء الاقتصادي, حيث إنها مرتبطة بحركة البشر وسرعة تحرك المؤسسات والأحزاب ورغباتها ومصالحها, بل ومطامعها أيضا وما تشكله من قدرة علي ضبط النفس وتنظيمها نحو المصلحة الكبري للمجتمع, حتي وإن كانت تؤثر علي مصالح الفرد أو المؤسسة بشكل مؤقت في الأوضاع الراهنة, ولكن صحة البناء الديمقراطي سوف تصب في مصلحة جميع المصريين ومستقبلهم.