راحلون لا يموتون

فى الحياة والموت تكمن قضية الإنسان، أما الشعوب والأمم فقضيتهم وقضيتنا نحن الأحياء هى الحياة والاستمرار، وقد خلقنا الله من أجل البقاء حتى يرث الأرض ومن عليها.
وعلمنا الدين والموروث الثقافى أن نعمل لحياتنا كأننا نموت غداً، وفى شهر أكتوبر أعز الأيام للمصريين توقفت أمام الشهداء الراحلين الذين فتحوا لوطننا رايات النصر والاستمرار، تذكرتهم جميعا، من سقطوا فى ساحات الحرب، ومن رحلوا بعد ذلك.
واخترت ثلاثة راحلين مروا أمامى هذا الأسبوع، وملأوا علىّ عقلى ووجدانى، تذكرتهم لأنهم رحلوا، لكنهم لن يغيبوا، وإليكم يوميات الثلاثة.
الراحل الأول هو العم جلال.. مام جلال طالبانى فى العراق، الرئيس الكردى الذى تبوأ سدة الحكم فى العراق فى أصعب سنوات البلاد،9 سنوات (2005-2014)، وقد مّثل طالبانى الأقلية، وصعد لحكم الشعب، وكان رمزا لوحدته، وخلال فترة رئاسته استقرت البلاد، وانسحب الأمريكيون.
سألت نفسى: ماذا لو كان الرئيس طالبانى لم يصب بالأمراض المستعصية، واستمر فى الحكم؟ هل كانت الأزمة الكردية ستنفجر كما يحدث الآن، ويتجه إقليم كردستان إلى الفوضى، وقد حصل على الحكم الذاتى، وأصبح فى السنوات الماضية من أكثر أقاليم العراق ازدهارا ونموا؟ وهل كانت شخصية العم جلال ستدفع الإقليم للانفصال كما يحدث الآن؟
تذكرت مقابلاتى العديدة معه، التى كان آخرها فى القاهرة 2007، وأجريت معه مقابلة شاملة، عّبر لى فيها عن ثقته فى مستقبل العراق الواحد، فهو الشخصية العابرة للانتماءات العرقية، والوثيقة الصلة بكل أطياف المجتمع العراقى، وإذا كان لى أن أنصح السيد مسعود البرزانى، وقد وصف الرئيس الراحل بالحكيم، فإن عليه أن يعوض خسارة العم جلال، وأن يعبر الحوار عن وحدة العراق واستقراره، لأن الانفصال لن يعنى الخير والنماء للأكراد، لكنه بداية التفكك والصراعات الداخلية.
وأقول للراحل الكريم مام جلال لن نترك العراق وحده، كما لن نترك الأكراد ينتحرون بالانفصال، وقد كانت تلك دعوته لى فى نهاية حواره الممتع معى، والمنشور على صفحات الأهرام.
أما الثاني فكان الرئيس الراحل أنور السادات، أبو الشهداء فى عصرنا، الذى رحل يوم 6 أكتوبر، يوم نصره، وهو القائد السياسى، والرئيس المصرى الذى حارب، وأعاد الكرامة، واسترد الأرض، وتساءلت: إذا كان يوم أنور السادات هو الرمز على كل الشهداء، فكيف قتله الإرهابيون والمتطرفون ليتخلصوا من قائد يصنع النصر، ويبنى الأمم، ويدفعها إلى طريق المستقبل، بينما هم يقفون ضد أى قيم حقيقية؟ وأجبت: لأنهم خفافيش الظلام وقوة التخلف.
أما القضية الأخيرة فهى قضية مواطن عادى فى دلتا مصر، لا يعرفه الكثيرون، ولكننى أعرفه، رحل هذا الأسبوع بعد رحلة قصيرة مع المرض والعلاج فى أحد المستشفيات، رحل ضحية طبيب بدرجة أستاذ جامعى، دخل إليه قد يكون مريضا، ولكنه مرض يحتاج للعلاج البسيط، فأوهمه الطبيب بأنه يجب أن يجرى عملية، والطبيب يعرف أنه لا يستطيع أن يقوم بها!
وذهبت إليه للزيارة، فشممت حالة من الجريمة الطبية قام بها هذا الطبيب، وهو غير قادر أو مؤهل، ولا أعرف لأى سبب فعل ذلك، ووجدت أن قضيتى الصحة والتعليم اللتين تناولتهما فى الأسبوع الماضى من أهم القضايا التى يجب أن تهتم بها بلادى مع قضية النمو السكانى غير المخطط والعشوائى، حتى لا تنهار مصر، وتضيع ضحية الجهل والخوف والإرهاب والتطرف، وإذا تركنا الأطباء بلا حساب وبدون تأمين صحى شامل يدفع لهم ما يكفيهم للحياة والعمل، سيتحولون إلى وحوش ضارية، تقتل المريض وتصيب المجتمع بالخوف.
إن أصعب الأشياء علىّ أن أرى الوطن يقع ضحية إهمال فى عدم التنظيم، وأن يسقط الضحايا فى المستشفيات أو فى الطريق العام، والمجتمع مازال يدرس أو يفكر أو يخطط ماذا يعمل!
إن صرخة هذا الشهيد الذى مات ضحية عملية جراحية تصم الآذان، فقد ظل ينزف بعد موته، والدماء تسيل ولا يعرفون كيف يجهزونه للغُسْل، ووسط هذه الدماء التى تسيل، فكان ضروريا أن يفكوا خياطة الجراحة، ويعيدوها مرة أخرى، لأنها لا تصلح لميت، فهل كانت تصلح لحى؟
دماء هذا الشهيد الذى لا تعرفه قد تكون هى نفس دماء الطبيب الذى أجرى الجراحة، أو مدير المستشفى الذى يتنصل من المسئولية، لأن المستشفى فندق، والطبيب هو المسئول وحده، وقد يكون الموت لى أو لك، وإذا لم نتدخل جميعا لإنقاذ الوطن من إهمال فى الصحة والتعليم، ويحتاج إلى التغير بل التغيير السريع، فإننا سنضيع، وتلك قصة طويلة يجب أن نعمل من أجلها جميعا.