على مسرح صبحى ومحطة مصر

عندما يأخذك حادث، ويعيش معك فى الليل والنهار، ويستولى على ذهنك، فهو بلا شك حادث جلل، ومخيف. وسيظل حريق محطة مصر، نتيجة اصطدام القطار برصيف المحطة، من الأحداث المؤثرة والعميقة التى سيعقبها تغيير كبير فى رؤية المصريين للحياة والمستقبل، ليس لعدد الضحايا فقط، إنما بسبب الإهمال واللامبالاة، وضعف مؤسسة السكك الحديدية إلى هذا المستوى المخيف.
ولأنه حادث متكرر، فلم نهتز، وظل ضميرنا غائبا، نبحث عن التبرير، وليس العلاج، ولم تنتبه العقول التى تدير هذا المرفق الحساس إلى أهمية العنصر البشرى، وبنائه وتطويره، وغرس حب الناس، وتطوير الخدمة والتفانى من العاملين، قبل البحث عن المزايا والحقوق، أو القطارات الجديدة، والاستثمارات والأموال الكبيرة.
فالعنصر البشرى تسللت إليه المخدرات، واللامبالاة، وغابت المحاسبة، بل حتى حب النفس ضاع، والبحث عن معنى للحياة قد سقط، وأصبحنا أمام إنسان عجيب، نراه حولنا فى كل مكان، ولم يعد يثير غضبنا، أو خوفنا على أنفسنا، وعلى مستقبل بلادنا، وأولادنا..
ففى ظل هذا الإنسان، الفاقد لكل معنى، وغير المدرك لوجوده، ووجود الآخرين فى حياته، يعبث بالقطار، ويتركه يتحرك بلا سائق، وقطعا بلا ضمير، حتى الضحايا لم يثيروا فيه أى إحساس، فهو فى عالم آخر، ولكنه قطعا لا يتحمل هذه المسئولية وحده، فمن عرف عنه ذلك، وتركه يعمل فى هذا المرفق الحساس هو المسئول معه، وإدارته هى التى يجب أن تدفع الثمن معه، وتعاقب معه، وتوضع فى قفص الاتهام.
هؤلاء إذا تركنا لهم مصيرنا، أو استمعنا إليهم، ولم نواجههم، ولم نضرب على أيديهم بكل قوة، فسوف تنهار مجتمعاتنا، ولن نبكى عليها! وعلينا جميعا أن نبحث عن الحل، ولا نترك المسئول وحده أو المؤسسة وحدها، نحن فعلا فى حاجة إلى تضافر، وجهود متنوعة لعملية إنقاذ شاملة، لإعادة تغيير الناس، ودفعهم إلى تبصر حالهم، والمساعدة فى تغييرها.
لا أرى فائدة فى التنبيه إلى أهمية تغيير المؤسسات التعليمية والثقافية والدينية والإعلامية، فهى المنوط بها تغيير الإنسان، وإعادة بنائه، وأرى أن الاهتمام يجب أن ينصب على التغيير السريع، ولعلى أشير هنا إلى المسرح، وتأثيره الساحر، وإلى الفن والثقافة وتأثيرهما المباشر. ولا أغالى إذا قلت إن مسرح محمد صبحى نموذج يجب أن نطرحه بقوة، وعبر كل المنابر، حتى نضحك من قلوبنا على خيبتنا التى تركناها تنمو حتى صدرناها للخارج، ويجب أن نغيرها الآن، بأن نقف أمام ما يطرحه على مسرحه من قضايا، فإنك عندما تنظر إلى المرآة، وتجد نفسك مشوها، هل ترى العيب فى المرآة فتكسرها، أم ترى أنه من الأصوب أن تبادر بإصلاح نفسك؟
وعندما ندرك أن الإهمال مسئولية الجميع، فماذا علينا أن نفعل؟ وكيف نتحرك؟ ومن أين تبدأ؟
فإذا لم تستطع أن تغير، وتكون إيجابيا، فستتركه يحطمنا ويحطم المجتمع؟ وهل يجب أن تسارع مؤسسات الدولة، وقوة إنفاذ القانون، بجعلك تحترم عملك ومؤسستك، فلا تحطم كل ما هو حولك؟ ولا تجعل إهمالك يتغلغل فى محيطك، فيحطم الجميع؟. لعل مسرح صبحى يقدم الحل، فالمؤلف يستخدم المنهج الصريح والمباشر فى توصيل رسالته، ويرى إننا قد وصلنا إلى حالة تحتاج إلى هذا المنهج، بل إنه ضرورة تفرضها الأمية الفكرية، وأمية القراءة والكتابة، وعجز الوعى، وغياب الرؤية، وإدراك طبيعة الحياة، وتفشى المخدرات والجهل بكل أنواعه، كما حدث فى سكك حديد مصر لبعض الإداريين، والسائقين، والعاملين، فهم لا يرون شيئا إلا ما يحصلون عليه، ولم يدركوا ما هى واجباتهم.
لا أريد التعميم على الجميع، ولكن الكوارث عندما تكون بهذه الغشامة والفجاجة وتلك السطحية، تسيطر على الذهن، فتدفعه إلى العدمية، وإلى هذا التفكير.
وبهذه المناسبة الحزينة، أدعو المسئولين عن المؤسسات الإعلامية أن يكثروا من الرسائل الفنية المباشرة، خاصة مسرح صبحى، فيتم تعميمه فى الكثير من البرامج، لعل الرسالة تصل سريعا، فهى أسرع من القرارات العقابية ولكنها ليست بديلا عنها، وأن ترى الإدارة أنه من الضرورى أن تضع الانضباط والمسئولية وتطبيق القوانين أمامها، وأن صرامتها هى قمة العدل والرحمة معا وليس التجاوز، لأن هذا هو قمة الرحمة بالآخرين، وبنا جميعا، حتى لا يحل علينا عقاب قد يأخذ حياتنا، ويهدد مستقبلنا، لأن هناك مديرا فاشلا وضعيفا اكتشف أن أحد العاملين معه مهمل، ويتعاطى المخدرات وتركه يقود القطار أو يتولى مسئولية فى مستشفى، أو أن مديرا فى مدرسة تعليمية أو جامعة، وجد متطرفا أو إرهابيا يعمل معه، وتركه للتدريس، يحشو عقول تلاميذه بلغة الجريمة والتطرف عن معنى الحياة، ولم يوقفه، أو يقدمه للمحاكمة والجزاء وخاف منه أو ترفق به وعقابه ومنعه، ومحاكمته فيه حياة لكل الناس لأولادنا ومجتمعنا، أما تركه فهو الخوف كله، وهو تهديد لمستقبلنا.
أسمح لنفسى بالاعتذار عن الكتابة بهذه اللغة، فهى حالة خاصة لن تتكرر.. تولدت لديّ، وأنا أرى حريق محطة مصر قد يأكل مصر، إذا لم نتداركه بالسرعة الواجبة، وبالكثير من الحسم، والعمل المستمر لبناء مؤسسات، وتقديم كوادر بشرية قوية للإدارة والعمل فى كل المجالات، وتنقية مؤسساتنا، مما شابها من ضعف، وترهل، وغياب للمحاسبة، والتدريب الحقيقى.