ظلال الثورات.. 1919 و 1952 وما بعد 2011

هزنى كاتب أحبه، عندما كتب فى مئوية ثورة 1919 عن مصر أم الثورتين.. فى مقارنة مع ثورة يوليو 1952.. بأن الأولى كانت ضد الاستعمار، والثانية ضد الملك، وتساءلت لماذا أغفل ما حدث بعد 2011؟ وقد شهدت هذه العشرية هى الأخرى أحداثا هزت أركان المعمورة، وليس المحروسة فقط، ومازال تأثيرها يدوى، وسيظل لسنوات، وأحقاب قادمة؟.
ولعل الوعى المصرى قد استخرج من ضميره الكامن، (الشعبى والمؤسسات)، كيف تخرج مصر آمنة ومستقرة، ومتقدمة فى كل المجالات، (اقتصاديا ومؤسساتيا)، وما يؤدى إليه ذلك طبعا سياسيا، للأجيال الراهنة والقادمة؟ فمصر التى نعرفها الآن أصبحت مدركة لهويتها الوطنية، ومصلحتها القومية، بالعقل الواعى والباطن، وتستطيع أن تتأكد من ذلك، وتلمسه حولك، فيما يكتب، ويقال فى الشارع، وعبر الوسائط المختلفة، والمنتديات، وما لا يقال، ويضمره الضمير الوطنى، ويصمم عليه ..ولعلنا نلامسه فى حجم ما يتحقق على أرض الوطن، من بناء وتعمير وتغيير وتحول فى المسارات، رغم الصعوبات، وندرة الموارد، وفى ضمير الناس.. وفيما نلمسه من تغيير محسوس، ورغبة أكيدة على تجاوز أى سلبيات، ونلمسه فى البناء فى كل مكان، وفى تحرك الناس..ويهزك عند المرور بالأزمات، أو الحوادث الإرهابية المؤثرة، أو الكوارث الفاجعة الناتجة عن الإهمال، أو سوء التقدير، أن تجد المصرى يجزع، ويحزن، لكنه لا يهتز أو يخاف، ويصمم على مساره، بل إنه يصل إلى ما يريد، ويتحرك بحسابات وإصرار..
يذكرك هذا المصرى أنه لا يريد أن تكون بلاده (أم الثورات)، كما يخطط البعض، أو كما كانوا يتحدثون فى بلاد أخرى عن( أم المعارك)، بل يريد أن تكون بلاده قدوة للتغيير الحقيقى، وصناعة الأوطان لشعبها ومنطقتها والعالم ..وأن تتعلم من حكمة الثورات ..ويذكرك ما يحدث بهزيمة يونيو 1967وفواجعها، فقد أرادوا بهذا الانكسار العميق أن يكون نهاية للحقب المصرية، الممتدة بإذن الله ..ولن تتوقف. فكان العبور العسكرى بالانتصار المذهل بعد 6 سنوات قصيرة فى عام 1973 ..وأضافوا إليه عملية السلام، كقيمة خالدة باقية لكل المنطقة، تخرجها من شرنقة المخاوف، وتفتح لها آفاق التعايش مع نفسها، ومع العالم.
تلك هى قيمة المصرى فى عالم جديد ومتغير.. وطن يعرف معنى الثورة ..ويدرك حدودها، ولا ينزلق بها إلى الفوضى أو الحروب الأهلية، لا قدر الله، أو مجالات المخاوف الأخرى، وأهمها سيطرة الارهابيين، أو المتطرفين على مقاليد الأمور، ودفع البلاد إلى الهاوية، وليس نزع الهوية فقط . ولعل هذا المضمون يصل إلى كل المتطرفين فى كل الاتجاهات والمشارب، بأن بلدنا متوسط وعميق الرؤية معا، ويملك وحدة الاتجاه، (شعبا ومؤسسات)، وإذا شئنا الدقة (جيشا وشعبا). فعندما قامت ثورة 1919 فى الشارع ضد الاستعمار، وطالبت بالاستقلال، وكانت أعظم حدث سياسى فى تاريخ مصر الحديث، فجرت روح الهوية، وأعطت للمصريين حقبة متميزة فى تاريخ الإنسانية، أفرزت علما وفنا وأدبا، ومؤسسات تعيش حتى تضعف وتقوى، لكنها تتجدد مع الزمن، وتصمم على الاستمرار..
وعندما قامت ثوره يوليو 1952عسكريا (تبناها الشعب)..وقد تخلصت من نظام حكم، وأقامت جمهورية،صممت عليها، وفى الوقت نفسه استكملت ما تبنته ثوره 1919 بتحقيق الاستقلال الوطنى..
والأهم كذلك أنها منعت، ووقفت ضد التدخل الخارجى فى الشأن المصرى.. الجسم المصرى يملك قدرة طرد الفيروسات الخبيثة، والمجرمة والمخزية، حتى لو تحوصلت فى قيمة(حقوق الإنسان أو الحرية)، أو أى دعاوى غربية جميلة وبراقة، مثل مبادئ وورد ويلسون فى الحرية..
أو كوندوليزا رايس فى الفوضى الخلاقة ..أو اردوغان، أو خومينى، وخامنئى فى الديمقراطية الإسلامية. فى مئوية ثورة 1919 نتذكر أنها حققت كل أهدافها عبر السنين، فى وحدة الوطن، واكتشاف المصريين لقدرتهم وتميزهم عن غيرهم، رغم غنى تاريخهم وتنوعه، تخلصوا من الاستعمار، ولم يعد الحنين له، بل ولد لدينا رغبة فى كشف أعوانهم وتعريتهم..
لعبت التيارات الدينية المتطرفة، والقوة الخارجية المتنوعة على دق أسفين فى الوحدة الوطنية (مسلمين ومسيحيين) وفشلت عبر كل المراحل الدقيقة والصعبة التى مرت بكل أحداثها الجسيمة، وتكرس شعار (الدين لله والوطن للجميع). نجحت الثورة فى إظهار معدن وقدرة المرأة المصرية، فتكرست المساواة، وتأكد دورها فى الحياة العامة، وبناء الأسرة.. لم يستطع بريق ثورة 1919 أن يخفى ما كان قبلها من جواهر تحققت، وكان لوجودها تأثير فى مفعول الثورة السحرى، وتأثيرها على مجمل التطورات التى حدثت عبر تاريخنا . فلم نغفل ما قبلها وما بعدها.. ومازلنا نتذكر محمد على، وبناء جيش حديث، وإليه يعود فضل اكتشاف الكنز المصرى، حيث موارد مصر الذاتية الطبيعية والبشرية.. وإليه تعود النهضة التى رفعت المدن المصرية إلى مصاف المدن العالمية.. وإليه نفتخر مع الجغرافى المصرى جمال حمدان بأنه وضع أسس الوطنية المصرية.. بل إن الطبقة التى ظهرت فى دولة محمد على كانت هى طلائع ثورة 1919، وما سبقها من إرهاصات فى حركة أحمد عرابى، ونضالات الحزب الوطنى القديم (مصطفى كامل ومحمد فريد)، أوائل القرن العشرين. ونتذكر أن وحدة تاريخ مصر ، بل وحدة حركة الشعب أو الثورات فيها، كان لها هدف وحيد هو أن نبنى دولة حديثة، يعيش فيها المصريون أحرارا بلا خوف، وتتخلص من الفقر، وتحقق العدالة، وسيادة القانون، وتكون لها مؤسسات قوية، وقوة سياسية عسكرية قادرة على الدفاع عنها، عندما تتعرض للخطر، أو التدخلات الخارجية المعيبة..
ونعتقد أن بعد كل هذه الثورات كانت الرسالة التى التقطها الضمير المصرى هى أن نبنى مصر.. ونصنع مؤسسات.. وقوة تحقق مصالح شعبها، ولا تنزلق إلى صراعات داخلية أو أوهام خارجية، فمن يملك فكرة فى هذا الاتجاه فليطرحها، ولا يتردد.. ويتحاور حولها ..فلن نكون أرضا للصراعات أو المغالاة، أو أرضا محروقة، أو مستباحة من الشرق أو الغرب، كما يحدث حولنا. تحية احترام لكل الثورات، بلا تداخلات خارجية..ووقفة إجلال لكل الشهداء الذين احترموا الوطن وأهله.