هذه السيدة مسحت دموعى

جاءنا الخوف والكراهية، هذه المرة، من بلد ليس أوروبيا، رغم أن قاطنيه من الأوروبيين، بل هو جزيرة فى المحيط الهادئ.. جاء من نيوزيلندا التى نعرف أنها بلد الأبقار والألبان، عالية الجودة والقيمة.. وهم للعلم يرفضون تصدير أبقارهم إلينا فى مصر، وبعض الدول الأخرى، بحجة أننا لا نجيد التعامل مع نوعية منتجاتهم الرفيعة، وهو اتهام موجه لدول العالم الثالث التى لا تحسن الذبح، ولا توفر بيئة مناسبة لحياة الحيوان.. ونحتاج، تدريجيا، إلى إزالة هذه الرؤية لنا..
نيوزيلندا جزيرة، أو مجموعة جزر هادئة، وهى قارة صغيرة مغمورة، مساحتها نصف مساحة أستراليا..عزلتها الجغرافيا، ولم تمنعها من أن تكون بلاد الجودة على مستوى الحياة ككل، وأن تقدم للبشرية نموذجا حديثا فى المدن، والتعليم، والحرية الاقتصادية، وانعدام الفساد، يرقى إلى أن نتعلم منه. نيوزيلندا (من بلاد التاج البريطاني)، وهى الدولة الخامسة فى مجموعة العيون الخمس: أمريكا وكندا وإنجلترا وأستراليا، وهى منظمه تتعاون فى مجال التخابر والأمن! كان ذلك وصفا للبلد الذى جاءنا منه خطابان متضاربان فى وقت واحد (مارس ..2019)، ففى ظهر الجمعة ( 15 مارس)، سجل التاريخ جريمة بشعة، لن تنسى فى وجدان المسلمين فى كل مكان، جريمة من جرائم الكراهية العقائدية، أو الدينية.. فالقاتل المتوحش اقتحم مسجدين فى مدينة كرايست تشيرش.. وقتل 50 مصليا، وأصاب العشرات.. وأصاب العالم بالذعر، والخوف من أننا دخلنا مجالا حتميا للصدام، وأن البشرية تعلن عن عدم قدرتها على التعايش معا، فى ظل التعددية، والحرية، والأفكار التى صنعها العالم الغربى بنفسه..
جاءتنا رسالة مضادة تماما، فقد وزع القاتل السفاح الإرهابى..بجريمته الشائنة.. الحزن والدموع التى سالت فى كل مكان.. سواء من أسر الضحايا أو من أهالى بلادهم التى هاجروا منها، أو ممن تعاطفوا مع المصلين المسالمين الآمنين الساجدين، وشعر كل واحد منا، بأنه من الممكن أن يكون فى موضع الضحية.. نستطيع الاستطراد فى وصف الجريمة…! ولكنها كشفت عن كثير من الأوجه الشائنة فى عالم اليوم، فقد عادت ظاهرة البحث عن نقاء العالم الأبيض، أو العنصرية العرقية والدينية، لتطفو على السطح.. وجدنا أن ظاهرة الإسلاموفوبيا ليست للتخويف، بل هى حقيقة مرة. القاتل الإرهابى لم يكتف بالجريمة، وبثها مباشرة على العالم، وصاحبها برسالة مطولة للكراهية، تمجد الحروب الموغلة فى القدم، وتعلى من شأن الصراعات الدينية، خاصة (المسيحية والإسلام). القاتل السفاح الأسترالى الإرهابى الذى تبرأت منه نيوزيلندا، أراد أن يثبت صحة مقولات هنتنجتون الشهيرة بصراع الحضارات، وأراد أن يدحض مقولات المستشرق برنارد لويس، من إننا، نحن المسلمين، المسئولون عن الإرهاب فى عالمنا، لأننا الذين هاجمنا برج التجارة العالمى بنيويورك 2001 ..
لعل الإرهابى جاء ليثبت أن بلادنا ليست وحدها التى تنجب الإرهابيين، وأن الإرهاب لا بلد ولا دين له، ورغم هذه الحقيقة الساطعة، فإن بعض المفكرين أو السياسيين الانتهازيين يريدون الاستفادة من الإرهاب، والتطرف، وخلق جمهور له ولهم. وهذا ليس موضوعى.. بل السيدة النيوزيلندية والسياسية الشابة جاسيندا أرديرن 38 عاما..رئيسة الوزراء التى وضعها الحادث البشع موضع امتحان عسير، خرجت منه، وقد استطاعت أن تبيض وجه بلادها، وتزيح عنه عار هذه الجريمة البشعة التى دارت سطورها فى بلادها، وأن تخطف الأبصار بلغتها الدقيقة، وتصرفاتها وتحركاتها ومشاركاتها الضحايا.. وكانت بليغة، عندما قالت: إنها لن تذكر اسمه، وطالبت الناس بعدم تداول مقاطع فيديو الجريمة البشعة الإرهابية.. كانت وقفتها مع الضحايا، ومع بلادها نموذجا، يجب أن نحتفى به فى بلادنا، لأنه سيكون ردا على الزعماء اليمينيين المتطرفين الذين ينتشرون الآن فى أمريكا وأوروبا وأستراليا لكى يغذوا الأحقاد والكراهية فى العالم.
جاءت الجريمة فوضعت السياسية النيوزيلندية فى مقدمة الزعماء السياسيين القدوة فى عالمنا المعاصر، وعندما قالت ببساطة: أنتم منا ونحن منكم.. نشاطركم الأحزان..كانت ترد على كل الأدبيات التى انتشرت فى أوروبا، بخلق صورة ذهنية لدى البعض، لكراهية الإسلام والمسلمين، وبأن أمريكا وأوروبا مهددتان بالهجرة، والهجرات الإسلامية، وأنهم يتجهون ليكونوا أغلبية فى بلادهم..! أفكار سوداء صنعها البعض منا، والكثير من الشعوبيين والمتطرفين فى أوروبا، وجاءت رئيسة وزراء نيوزيلندا لتدحض كل ذلك، بل أن تلبس مثلهم، وتنضم إليهم، بروح عادلة، متسامحة وكبيرة، فأكبرت فينا قيمتها السياسية، وارتفعت إلى مكانة سامقة سيذكرها التاريخ..
وأدعو الأزهر، وجامعاتنا الأخرى، ومنظمة المؤتمر الإسلامى، لكى يرشحوا تلك السيدة، والسياسية البارعة، لجائزة نوبل للسلام، فهى تستحق، لتكون تشجيعا للسياسيين الآخرين، لكى يسيروا فى المنوال نفسه، وعلى ذلك المسار الذى من الممكن به أن تنجو المجتمعات، من حروب الشر والكراهية، ولتوقفوا سيلا من السياسيين والمفكرين فى العالم الغربى، زرعوا بذرة الخوف والإرهاب، وعدم القدرة على التعايش بين المجتمعات والأديان..
الجريمة البشعة تدق جرس الإنذار فى عدم التساهل مع كل الظواهر التى صنعتها، ولم تتخذ الإجراءات القانونية المطلوبة لمواجهتها، ولم تأخذ الإسلاموفوبيا بالجدية المطلوبة، رغم أن المسلمين فى كل منطقتنا، وقفوا ضد كل الظواهر الإرهابية والعنصرية، ولولا وقفتهم القوية، لغزت منطقتنا كل أرواح الشر والمخاوف والكراهية بين الشعوب والأديان.. حادثة نيوزيلندا، ربما تكون الأولى من حيث ضخامة عدد الضحايا، والحقد العنصرى والدينى الذى كشفه منفذها.. لكننا يجب أن نسعى إلى رأب الصدع، وأن تكون هناك تحركات واعية منا للتخلص من كل الظواهر السلبية التى أحدثتها فى مجتمعاتنا، وفى العالم تنظيمات (الدواعش والقاعدة والإخوان المسلمين والغوغاء والجهلة والمتطرفين، بكل أشكالهم وألوانهم)، لنصنع عالما جديدا، لا تسوده الكراهية، ولا التعصب وحروب أو طواحين القرون الوسطى..نريد من زعمائنا وقادتنا تحركات، ولغة واعية، تركز على الرأى العالمى، وعلى العقول المتسامحة، لإعادة بناء ما أحدثته حروب التطرف والإرهاب فى عالمنا