
فجأة خطفنى المشهد المغاربى العربى، فى جنازة التونسى المخضرم الراحل الكريم، سى محمد الباجى القايد السبسى.
وذكرت اسمه الرباعى، لأنه هو وزير وسياسى فى كل سنوات تونس بعد الاستقلال، اشتهر باسم محمد الباجى فقط.. وكل من قابل فخامة الرئيس الراحل، قبل صعوده إلى سدة الرجل الأول فى تونس، بعد انتفاضة 2011 ، سواء فى منصب الوزير الأول، أو موقع الرئاسة فى الشهر الأخير من عام 2014، كان يعرفه باسم (سى محمد الباجى)، ثم فجأة تصدى هذا الرجل الثمانينى، (وقد رحل في التسعين)، لحماية تونس من الضياع فى عصر الانتفاضات الجماهيرية التى ألمت بالبلاد بعد 2011، وحماية تراث الجمهورية فى عهدى الحبيب بورقيبة، المؤسسس للدولة الجمهورية بعد الاستقلال (1956- 1987)، ثم الرئيس الثانى بن على ( 1987- 2011).. ورحل بعد تجاوزه التسعين.
كان سى الباجى مرجعا للمعلومات فى الدولة التونسية، ولا يمكن لأى مهتم بتونس الخضراء إلا أن يلتقيه، سواء فى العاصمة، فى أجمل مكان (ضاحية سيدى بوسعيد) مقره المختار لأصدقائه ومريديه، أو فى مكتب المحاماة الذى كان ملتقى السياسيين من داخل تونس وخارجها..
تذكرت زيارتى الأولى لتونس، فى صحبة النقيب الراحل صلاح جلال، إبان رئاسته لنقابة الصحفيين المصريين، فقد كنت ألتقيه مرارا فى تونس أو القاهرة أو فى باريس، وكان ودودا محبا لبلاده، ولأصدقائه، وللعرب جميعا، ويكن محبة خاصة للمصريين، ولتجربة الرئيس بورقيبة الواقعية التى غيرت تونس كليا، وكان يتمنى أن يفهم كل عربى فكر بورقيبة السياسى، وأساليب تحديث الفكر العربى ككل…
وكان مشهد الرحيل، وجنازته بمثابة تكريم مستحق للراحل، ولتجربته السياسية، ولقائده بورقيبة، وتقدير لذهن هذا الرجل الذى ظل يعمل بلا توقف فى السياسة والقانون إلى أكثر من 79 عاما، وعندما وجد أن بلاده فى حاجه إليه تصدى للعمل العام..
كانت فرصة ثمينة ليوظف قدراته الذهنية، وخبراته الطويلة، بل وهذا التاريخ العريض، لصالح تونس الشقيقة فى أضعف حالاتها، والتيارات المختلفة تتصارع على حكمها، وكيف قيض لهذا الرجل نخب تونسية حكيمة، التفت حوله، ومنعت القوى المتأسلمة من أن تأخذ بزمام تونس، وتحرفها إلى حيث تخطط..
ويبدو أن المتأسلمين التونسيين الذين تربوا فى المدرسة الفرنسية، أو فى باريس، تعلموا فى المنافى أنهم لا يستطعيون أن يهدموا التراث البورقيبى، ويقتنصوا دولة مؤسساتها قوية، أو هم أعقل من غيرهم، متأسلمى المشرق العربى، فأدركوا ضرورة الحفاظ على اقتصاد قوى إلى حد ما، بل مزدهر، وهو فى حالة السيولة أو الفوضى..
ولذلك عنما حدثت فرية بوعزيزى أو انتحاره وتحول إلى أيقونة الانتفاضة لم تدخل عقلى، وقلت إنها لعبة من يشغلون الجماهير، ومن يلعبون ويخططون للسياسة، ولتغيير مقادير البلاد، وظهرت تلك الحقيقة بعد ذلك جلية، ومع ذلك ظل الأيقونة التى يهتفون حولها..
تابعت فى جنازة الراحل سى محمد الباجى.. خطابات قادة العالم.. وتوقفت أمام جيران تونس، أهل المغرب (فى الجزائر أو ليبيا)، وتوقف قلبى وذهنى بالدعاء للشعبين، والبلدين، بأن ينجوا من الفوضى، وكذلك لتونس الخضراء، بأن يقيض الله لهم قادة، ومؤسسات تعمل على إعادة نهضة تلك المنطقة العربية، ولا تنزلق إلى الفوضى مرة أخرى، وطمأنني، بعض الشىء، أن الفرنسيين، والأسبان، ودول شمال المتوسط، كانوا حاضرين، وأنهم سيكونون شركاء للتوانسة، بل سيكونون ضامنين لمرحلة التحول القادم، وهم يستطيعون تلجيم طموحات المتأسلمين الذى يسنون أسنانهم الآن، لكى يستفيدوا من الوضع القائم، ويقضموا تونس، والتحكم بمقاليد الدولة التونسية بالكامل التى ازدهرت فيها حريات كل الناس، خاصة المرأة التونسية، عبر تاريخ الجمهورية فى عهود بورقيبة وبن على ثم السبسى..
دعوت أن يستمر التراث البورقيبى ولا يضيع، (خاصة أن خيالى سرح بأن جنازة السبسى كانت كذلك إلى بورقيبة)، حيث إن هذا الرئيس العظيم، المؤسس لقيم التحديث والحداثة والواقعية فى تونس والمنطقة العربية، لم يحظ بجنازة رسمية، كانت مستحقة له عند الرحيل، ولكن الألاعيب السياسية أجلتها، أو دمجتها فى جنازة الراحل محمد الباجى، السياسى المخلص لبلاده، ولتراث البورقيبية، والمقاتل العنيد للحفاظ على تراث اعتدال التونسية فى الزمن الصعب…
تمنيت من قلبى أن تستمر، ولا تغيب شمس البورقيبية عن تونس، وعن المغرب العربى، بالحداثة والتطلع إلى العالم الخارجى، وتطوير البلاد، ودمجهم فى عالمهم بلا خوف، أو سيطرة قوة تتحصن بالسلطة الدينية، وتغيب العقول، وتستغل حب الناس للأديان، وألا تغيب عن كل دول المغرب العربى ( تونس والجزائر وليبيا) التى تقف كلها الآن فى طابور من المخاوف والتوتر والخوف من المستقبل، أو على حافة الانزلاق فى مخاطر جمة، تهدد مستقبل الشعوب والدول..
رحم الله الرئيس الباجى السبسى الذى ظل يعمل منذ ما قبل استقلال بلاده فى الخمسينات، ومع كل الجمهوريات الثلاث، وترك دولة وإرثا من المؤسسات والثقافة، أعتقد أن المتأسلمين لا يستطيعون هضمه، أو إزالته ، حتى ولوا استطاعوا الاستيلاء على السلطة فى تلك البقعة الخضراء والمتحضرة، أو تحت مسميات وشعارات مختلفة، تخلب لب الشعوب سيكون لبعض الوقت ثم تموت، ولنا فى تجربة التونسى المخضرم محمد الباجى القايد السبسى عبرة وعظة ودرس، لقوة الفرد أو الشخصية عندما تواجه طواغيت، تركب أحصنة الجماهير، والأوهام والشعارات، رحمه الله وأحسن إليه..