
في دنيا الصحافة حيث العمل اليومي الدقيق والسريع المتلاحق، قليلون هم من كانوا رمانة الميزان، الذين يضبطون إيقاع العمل ويوازنون بين أجنحته المختلفة، ويوجهون كافة الجهود نحو هدف واحد هو التميز وخدمة القارئ، وكان “عبد الحميد سرايا” هو رمانة ميزان “الأهرام” في عهد “هيكل”.
لذلك كان الأستاذ “هيكل” لا يناديه إلا بأستاذ سرايا، ولم تأت هذه الأستاذية من فراغ؛ فقد كان سرايا “ديسك مان” من الطراز الرفيع، حتى أُطلق عليه “مهندس المانشيتات” في الصحف المصرية، فقد كان يستطيع تحويل خبر صغير إلى قصة خبرية تُنشر بعرض الصفحة الأولى وتكون حديث الشارع المصري كله، تساعده على ذلك حصيلة معرفية واسعة، عن كل ما يدور من حوله في كافة مجالات الحياة.
** حياة صحفية طويلة حافلة بالإنجاز قضاها “عبدالحميد سرايا” -المولود في 9/12/1920، بقرية البجلات مركز منية النصر بمحافظة الدقهلية- بعد أن تخرج في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب عام 1943، وعن حبه للصحافة وبداية حياته الصحفية قال “الأستاذ سرايا”: “في الثلاثينيات كان في قريتنا “فقيه” ليس هناك متعلم أو نصف متعلم إلا ومر من تحت يده في الكُتاب يقرأ عليه القرآن أو بعضًا منه، كان رجلًا طيبًا يتمتع باحترام الجميع، مهذبًا يتحدث بصوت رقيق، حتى وهو يرتل القرآن، وكان الشيخ دسوقي درة يأتي إلى بيتنا كل عصر ليقرأ القرآن.
وذات مرة فاجأني العريف بقوله: تعرف بماذا أحلم؟.. أحلم بعفريت من الجن، يمسك في يده سبعة “كرابيج” كل “كرباج” بسبعة ألسن أضعه في كمي وأنا أتحدث مع العمدة، قلت له: ولم؟ وليس بينك وبين العمدة ما يستأهل التسليح بهذا العفريت؟
قال: نعم ليس بيني وبينه شيء، ولكن العمدة أقوى شخص في القرية، وأنا أريد أن أشعر وأنا أمشي معه أنني أقوى منه.
ومرت أسابيع وسمعت الأستاذ فكري أباظة يقول في حديث على الراديو: مرة كنت ماشي وأنا أبص للسما، فتعثرت في طوبة، وكادت رجلي تنكسر، ثم مشيت بعدها وأنا أبص لتحت فوجدت قرشًا” فوجدتني أبعث برسالة إلى مجلة “المصور” أصف فيها مقولته بأنها دعوة إلى الإذلال، وبعدها قرأت في بريد المصور “تلقينا رسالة من الأديب عبد الحميد سرايا.. فنشكره” ثماني كلمات في سطرين لا أكثر ولا أقل، ولكن كان لها فعل السحر القرية كلها قرأتها، وجاءني كثيرون يسلمون عليَّ باحترام كبير، ويومها شعرت بأني قوي وأن عفريت عريفي الدسوقي في كمي.
ومن يومها قررت أن أكون صحفيًا وخلال دراستي، كنت سكرتير تحرير مجلة المنصورة الثانوية، وفي كلية الآداب أصبحت سكرتير تحرير مجلة “القبس”، وكتبت المقال الأول فيها بعنوان “المقامة الجامعية”، وكان عبارة عن جولة نقدية في أقسام الكلية بأسلوب مقامات الحريري، وبعد صدور العدد الأول استدعاني الأستاذ العميد الدكتور طه حسين إلى مكتبه ليقول لي: “لقد أُعجبت بمقامتك كثيرًا جدًا، وضحكت بها كثيرًا جدًا”، ثم سكت قليلًا وأضاف، “ولكن لماذا لم تعرج علي”؟
وتخرجت في الجامعة في يونيو 1943، وفي أكتوبر كنت أدخل دار المصري لأبدأ أولى تجاربي الصحفية، فبعد ستة شهور كنت مندوبًا بها في وزارة المعارف، ووسطت أحد أقاربي لدى الأستاذ محمود أبوالفتح -صاحب المصري- ليربط لي راتبًا محددًا، وفي اليوم التالي استدعاني محمود بك، ليخبرني أني مفصول، وظللت شهورًا بلا جدوى أبحث لي عن موقع قدم في الصحف، وفكرت في الأقسام الخارجية، وكانت وقتها تعرف بالترجمة ورجوت صديقًا يرأس قسم الترجمة في جريدة “صوت الأمة” أن يهيئ لي فرصة للتدريب، وبالفعل عملت في قسم الترجمة بدون أجر، إلى أن عين مصطفى النحاس باشا الدكتور محمد مندور رئيسًا لتحرير صوت الأمة، فعينني محررًا بها؛ حيث كنت أبدأ يومي مندوبًا للجريدة في وزارة التجارة والصناعة، وفي الرابعة أذهب إلى مجلس الشيوخ، وفي الثامنة أجلس في قسم الترجمة إلي منتصف الليل، وبعدها أنزل إلي المطبعة حتى الرابعة صباحًا، كل ذلك بأحد عشر جنيهًا، ولم أقض في “صوت الأمة” أكثر من عام، حدثت لي خلالها واقعتان تلقيان الضوء على طبيعة الحياة الثقافية في ذلك الوقت: الأولى: أني علمت من وزارة التجارة والصناعة ومن وزارة التموين أن الحكومة قررت إنقاص وزن الرغيف، وكان ذلك في رمضان ونشر الدكتور مندور الخبر تحت عنوان عريض في الصفحة الأولى “هدية حكومة السعديين إلى الشعب في العيد”..
وفي مساء ذات اليوم وأنا في استراحة الصحفيين بمجلس الشيوخ جاءني ساع وطلب مني أن أذهب لمقابلة مسئول، فذهبت إليه وسألني عن مصدر الخبر وكان ردي أن المصدر ليس موضوعًا للمناقشة، المسألة هي هل الخبر صحيح أم خطأ؟ إن كان صحيحًا فما هي مبرراته، وإن كان خطأ فليصدر الوزير تكذيبًا رسميًا، ومن حقه أن ننشره في نفس الموقع، وأخرجت علبة سجائري لأشعل سيجارة، فإذا به يطلب أن أجرب واحدة من عنده، وأخرج من درج مكتبه علبة سجائر وناولها لي مغلقة وفتحتها فإذا بي أجدها ملئية بنقود من فئة الجنيهات العشرة، وبهدوء شديد أغلقتها ورددتها إليه دون أي كلمة، وهممت بالخروج، فنهض الرجل من مكانه وظل يعتذر، وساعتها شعرت بالقوة ومن يومها صرنا صديقين.
أما الواقعة الثانية، فقد قال لي الدكتور مندور ذات ليلة توزيع الجريدة ينهار، لابد أن نفعل شيئًا، واتفقنا أن ندخل معركة ضد مكرم عبيد باشا، لحل الاتحاد المصري الإنجليزي، وكان مكرم عبيد نائب أول لرئيس الاتحاد، ولكننا فشلنا في المعركة، وغضب الدكتور مندور لأنني كنت صاحب الاقتراح، وفصلني من صوت الأمة.
وبرغم الصدمة، كنت أحس أن عفريت الدسوقي موجود معي في كمي، وبعد أن فشلت في إيجاد مكان لي بالصحف، عملت بقسم الإعلام في السفارة الأمريكية، ووصل دخلي منها إلى 85 جنيهًا في الشهر، ولكني كنت قلقًا.
وفي 29 أبريل 1948 كنت أسير أمام دار “الأهرام” في مظلوم فدخلتها، واستقبلني الأستاذ نجيب كنعان، وقدمت له نفسي وتجربتي في الصحافة، وسألته إن كان لي مكان في الترجمة، فأجلسني وأعطاني برقية من وكالة رويتر “حوالي 500 كلمة” انتهيت منها في وقت قصير، وبعد أن قرأها طلب مني أن أعود في أول مايو لأتسلم العمل، وبدأت في الأهرام بـ15 جنيهًا، ويومها شعرت بأني أقوي الناس، وبعد 6 شهور أصبحت رئيسًا للقسم الخارجي.
**لكل هذا استحق “عبدالحميد سرايا” أن يناديه هيكل بالأستاذ، وأن يكون رمانة ميزان الأهرام.
Dr.ismail52@gmail.com