
بقلم : أسامة سرايا
نحن نعيش فى فترة مليئة بالأحداث المدوية، فى منطقتنا، إذا لم نأخذها بعين التدقيق, قد نخسر معركة تحديد الأولويات، بل قد نفقد الرؤية، إذا كانت أعيننا لا تستطيع السيطرة، وهى شاخصة نحو محاكمة الرئيس الأمريكى ترامب، لنعرف هل هو باقٍ معنا للسنوات المقبلة، أم أن المحكمة، على الرغم من أنها بمنزلة مسرحية فى برودواي، أو فيلم هيوليوودي، فإنها تخطف الأبصار، وأنه صعب أن تنجح، إن لم يكن مستحيلا، فى إدانة الرئيس؟!.. فالمحاكمة تكشف، للعيون البصيرة، أن هناك انقساما حادا فى المجتمع الأمريكي، وليس فقط بين الحزبين المتحكمين فى القرار السياسي: الجمهوري، الذى يمثله ترامب، والديمقراطيين، الذين يحاولون ترميم أوضاعهم، واختيار حصان جديد قادر على المنافسة فى الانتخابات المقبلة2020، ليستفيدوا بما ستحدثه المحاكمة من شرخ داخل الشارع، وحزب الرئيس، الذى أصبح لا يستطيع تعويضه الآن..
ولذلك نشعر بأن ترامب استطاع اجتياز محنته الشخصية جزئيا فى دافوس بسويسرا، قلب أوروبا، حيث وضع أجندة أعماله، وكانت مليئة بما يُرضى الأمريكى والأوروبى معا، وقد نجح ترامب، إلى حد كبير، حيث كان فى جعبته اتفاقه مع الصين، وعلى الرغم من أنه اتفاق أوليُّ، فإنه تاريخي، له مغازٍ كبيرة، ويعكس تغييرا فى طريقة تفكير ترامب، وأنه أمكن لقوة المجتمع الأمريكى أن تدفعه إلى تلجيم طموحاته، والسيطرة على جموحه للنصر الحاسم، وترجمة إصلاحاته الداخلية بإرضاء الناخب الأمريكي، الذى يستعد له ترامب بحزمة جديدة من النجاحات، لعل أولاها احتفاله بحل أزمة سد النهضة بين دول منابع النيل ومصبه، إثيوبيا ومصر والسودان، حيث وصلت المباحثات، تحت إشرافه، إلى انفراجة جزئية، لا نقلل من أهميتها، وتأثيرها.
كما أن ترامب يتطلع إلى أن يُرضى الجميع فى صفقة صعبة، مازالت تراوح مكانها، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على الرغم من أن الجانبين يعانيان انقسامات ضخمة، وعدم وضوح رؤية لديهما، فيما يريدانه لمستقبل بلديهما، كما أن المنطقة العربية تعيش حالة سيولة منذ أكثر من عِقد، وانفتحت أمامها أزمات متعددة، أخطرها سوريا، التى دخلت فى حرب أهلية، وطائفية، طاحنة، انتهت بخسائر للجميع، كما لا يستطيع كل من دخلها أن يخرج منها (الأمريكيون والروس والإيرانيون والأتراك، وأعوانهم من ميليشيات وجماعات)، كما أن اليمن مازال فى حالة حرب لم تتوقف، سواء مباشرة أو بالوكالة، والشعب اليمنى هو وحده من يكتوى بأعباء الحرب الدموية، والصراع بين إيران وأمريكا يستنزف المنطقة، وتدفع شعوبنا العربية فى لبنان، والعراق، ثمنه، كل يوم. ووسط كل ذلك، تفجرت الأزمة الليبية، وطموح تركيا فى استغلال الفراغ الراهن بها، بوضع يدها عليها، بثمن بخس, وهو خيانة بعض أهلها، الذين فتحوا البلاد للإرهاب، والتطرف.. وكذلك الصراعات المتداخلة، والبينية، بين الأوروبيين من جانب، والروس من جانب آخر، وقد أحسنت مصر صنعا عندما شعرت بضرورة التحرك لمنع التدخل العسكرى التركي- الأردوغانى فى ليبيا، وأرسلت إنذارها المُدوي، سواء بالرفض، أوعمليا، وذلك بإظهار الإرادة، لحماية ليبيا، ومنع التدخل التركي، علانية، سواء بالمناورات البحرية، والجوية، والبرية، التى أجريت بالبحر الأبيض، أو افتتاح قاعدة برنيس العسكرية على البحر الأحمر، وهى المنطقة الإستراتيجية، التى تجعل من يعتليها يرى كل المنطقة، كما أنها تحمى المضايق (باب المندب، خليج هرمز، وقناة السويس)..
يدرك الجميع خطورة الحرب الواسعة حول ليبيا، التى قد تبدأ فى أى لحظة، ولكنهم جميعا لا يعرفون كيف تنتهي، فإذا كان الصراع حول سوريا لم ينتهِ بعد 9 سنوات، فماذا سيكون مصير الصراع حول ليبيا، وكم المدة التى سيستغرقها؟!.. ولذلك استحقت ليبيا 3 مؤتمرات متتابعة، الأول بدأ بموسكو، والثانى فى برلين، والثالث فى الجزائر، وأعلن كل طرف أنه مهتم بأزمتها، وسيشارك فى الحل، ومنع الحرب، فالروس، والأوروبيون، وشركاء ليبيا (دول الجوار العربي) لا يملك أحد منهم أن ينظر إلى الأزمة الليبية وكأنها لا تخصه، فالمصريون يدركون أنهم معنيون، أكثر من غيرهم، بالأزمة الليبية، فالجوار بين مصر وليبيا والسودان يجعل منها بلدا واحدا، إذا تَفّشى الإرهاب، أو الفوضي، فى إحداها، سينتقل بسرعة العدوى إلى الأخري.. وهكذا، وقف سلطان تركيا (أردوغان) عاريا في3 مناطق، يأتى على رأسها روسيا، التي، على الرغم من علاقاته الممتازة معها، وتصدير غازها إلى أوروبا عبر أراضيه، لم يستطع جذبها لتأييد مساره، وأيضا أوروبا، التى أدركت أن تدخل تركيا فى ليبيا سيكون تأثيره مباشرا على أوروبا، وكذلك عربيا، دخلت الأزمة فى ليبيا معتركا جديدا، لا يستطيع الأتراك فيه أن يتحركوا، كما كانوا يأملون، ولكن العبء فى المرحلة المقبلة، سيقع على الليبيين، الذين يحصلون، الآن، على دعم عربي، من كل دول الجوار، للتحرك لحماية ووحدة أراضيهم.
نحن جميعا نحبس أنفاسنا لنعرف مسار الحل فى ليبيا، ومازال كل الأطراف لم يحسموا خطواتهم المستقبلية، فالأمريكيون يرون أن استمرار الحرب، والتدخل التركي، قد يكون مفيدا فى استقطاب الإرهابيين، والمتطرفين، إلى معركة فاصلة فى ليبيا، وهى الحالة، التى بدأتها فى حرب أفغانستان، ومن بعدها العراق، وسوريا، لاصطياد الإرهابيين، والمتأسلمين، عقب أحداث سبتمبر2001، وجرت وراءهم، فى مختلف القارات، لاصطيادهم، قبل أن يعودوا، ويفكروا، فى غزو أمريكا، كما فعلوا فى بداية الألفية الحالية فى نيويورك، وهكذا فإن الأمريكيين والأوروبيين ينتظرون، والروس لا يتعجلون، ولكن ليبيا على صفيح ساخن، لا نريد لأزماتها أن تكون مزمنة، فهل يملك العرب الإرادة، والعقل، ويتدخلون مع أشقائهم الليبيين، للتسوية والاتفاق على نظام مستقر للحكم، مع نزع أسلحة الميليشيات، ودمجها فى الجيش الليبي، تحت رعاية الأمم المتحدة، وإبعاد أصحاب المصالح الخاصة، المتطرفين، والإرهابيين، وأولهم الأتراك، الذين يتبنون إستراتيجية رعاية الإرهاب، والتطرف، ليجدوا لأنفسهم موضع قدم فى إعادة تأثيرهم على المنطقة العربية؟!.