
طُويت أطول صفحة، فى تاريخ مصر الحديث، برحيل الرئيس حسنى مبارك، يوم الثلاثاء الماضى (25 فبراير 20 20)، والتى لم تُطو بتنحيه، أو تخليه عن السلطة، فى الشهر نفسه من عام 2011، عقب التطورات، التى ألمت بالبلاد، وتركها للمجلس العسكرى، برئاسة المشير طنطاوى، أى منذ 9 سنوات، والتى أعتبرها من أطول، وأصعب، وأدق المحطات، فى تاريخ مبارك السياسى، الرئيس الأطول فى حكم مصر ( 30 عاما) منذ قيام الجمهورية، من 70 عاما، والثانى، بعد محمد على ( 42 عاما)، بعد قيام الدولة المصرية الحديثة، فى العهد الملكى، والتى استغرقت 150 عاما.. الرئيس الراحل حَظىَ، فى يومه الأخير، بجنازة عسكرية مهيبة، احتشد فيها المجتمعان، المدنى والعسكرى، ولحظتها أدركت مدى التقدم المؤسسى، والأخلاقى، لبلدنا، فلا يمكن أن نُسقط تاريخنا، ولا نستفيد من كل مراحله، بل كل أيامه، وليس بالحكم على القادة، والزعماء فقط، بل التقييم الجاد، وليس الشحن، والضغينة، ومَن مع؟.. ومَن ضد؟.. فنحن فى إطار مستقبل، ولسنا فى مباراة، أو مراهنات، تتزايد فى ملاعب السياسة، أو الكرة، أو الشارع، وأن نكون مع لحظات خروجهم من السلطة بالموت المفاجئ، أو الاغتيال المادى، أو المعنوى، كما حدث فى الجمهوريات الأربع: نجيب، وناصر، والسادات، ومبارك (اثنان اغتيلا معنويا، والاثنان الآخران: واحد قتل ، والآخر رحل فجأة)، وكلهم كانوا وطنيين، سعوا لبناء مصر، وتجاوز عثراتها، وترسيخ قِيمها، ومنهم من أخفق، وحاول من جديد، المهم أن راية مصر، وقِيمها، وثقافتها، وروحها لم تسقط، حتى مع الهزيمة الكبيرة (: 1967)، واستردوا الأرض، وعرف العالم، منذ تاريخ الجمهورية، روحا جديدة للمصريين المعاصرين, والتى يجب أن نحافظ عليها، ونجددها مع الزمان، وأن نبعث فيها تاريخنا القديم، الفرعونى، لتعود مصر إلى مكانتها، فى عالمها. إن للرئيس مبارك مراحل متعددة، فى العمل العسكرى، والحكم، امتدت لأكثر من 50 عاما، بعض محطاته سيكون من السهل سرعة تقييمه، ولعل أهمها الجانب العسكرى كطيار بارع، بزغ فى هذا السلاح كمقاتل مع أصعب طائراتها، وقائد لأسراب الطائرات لأطول مدة، ثم مدير الكلية الجوية، التى فى عهده شهدت تخريج أعداد قياسية للطيارين، فقد كنا فى مرحلة إعداد، وبناء القوات المسلحة من جديد، بعد هزيمة يونيو 1967، وكان هؤلاء الطيارون هم أبطال العبور، أو قوته، حموا الجبهة الداخلية قبل الحرب، وأمنوا عبور الرجال قناة السويس ساعة الحرب، وقضوا على أسطورة بارليف، التى قالوا عنها إنها تحتاج لقنبلة ذرية، فكانوا هم القنبلة الذرية، وبأرواحهم عبروا، وبتخطيط قائدهم أمنوا انتصار 1973، وكان لمبارك دور بارز، بل رئيسى، فى الإعداد لحرب الاستنزاف، والعبور، مع الرئيسين عبد الناصر والسادات، ولعل ذلك ما أهله لأن يكون اختيار الرجلين، في مرحلتين دقيقتين، وصولا إلى اختياره نائبا للرئيس السادات، ثم تعرض لاختبار قاسٍ تهتز له الدنيا، والشخصيات، بل البلاد، والمؤسسات، هو اغتيال التيارات الإرهابية، والمتأسلمة، الرئيس المنتصر، السادات، فى يوم نصره، أكتوبر 1981، والتى كان هدفها إجهاض النصر، وأن تعود مصر إلى مرحلة الهزيمة مرة أخرى، وعدم استكمال تحرير الأرض، لكن الروح، والعزيمة، ظلتا باقيتين فى ضمير نائب الرئيس، الذى نجا من الموت، فى هذا اليوم البائس، فى تاريخنا، ليستكمل استرداد الأرض حتى آخر بقعة فى طابا، ويرفع أعلام الوطن على كل أراضينا..
تلك المحطات لا يمكن الاختلاف عليها إلا من أنصار التيارات الدينية، ومَن يسعون للخلافة الإسلامية، تحت حكم تركيا، أو غيرها، أو إعادة مصر لعصور الاستعمار، والاحتلال القديمة، وأن تسقط الدولة الحديثة، التى قامت فى مصر منذ أوائل القرن الـ 19 حتى الآن،. وقد شاهدناهم فى السنوات الماضية، عقب ما ألمَ بالبلاد بعد 2011 ، حتى صعود المتأسلمين لحكم مصر، فى سنوات مابعد الفوضى، والاضطرابات الكبيرة، التى حدثت..
لقد ارتفع فى عهد مبارك متوسط نصيب الفرد من الدخل القومى من 200 دولار سنويا إلى 1800 دولار، وبرغم تضاعف عدد السكان، كانت هناك شكوى من أن هذه الدخول لم تصل للفقراء بما يكفى!.. ولكن هذا لا يمنع معاصرين أمثالنا أن يقولوا إن مبارك سار فى تحرير الاقتصاد، وحاول ولم يستطع، وظل مكبلا بفكرة القطاع العام، برغم أن العالم من حولنا أسقط هذه النظرية بسقوط الاتحاد السوفيتى ويوجوسلافيا. كما لا ننسى لمبارك أنه تصالح مع المحيط العربى، والمحيط العالمى، ولم تكن لمصر خصومات، أو عداوات مع أحد، برغم أنه تولى الحكم وكل علاقات مصر بمحيطها ممزقة، ولم ينزلق إلى أى صراعات، أو حروب جديدة.
إننى أستطيع أن أقول إننا فى وداع مبارك عُدنا.. فقد شهدنا وحدة تاريخ الدولة، وكنا أكثر ثقة، ويقينا، بدولتنا الجديدة، والمعاصرة، بأنها قادرة على إتمام بناء مصر، وتحديثها، سياسيا، واقتصاديا، وأنها تتحرك صوب ذلك بفاعلية تتزايد، فلدينا الآن، رئيس قوى، الرئيس السيسى، لا يتأخر فى اتخاذ قرارات التصحيح، والعمل الجاد، ويحشد خلفه كل أبناء الوطن المخلصين، ويتفهم نوازع الجميع، ولا يترك أحدا، ويدفعهم نحو المشاركة بفاعلية فى بناء مصر، إلا من هم فى نفوسهم مرض، وتصوروا أنهم يمثلون الإسلام.
رحم الله مبارك بقدر ما أعطى، وسامحه على ما أخفق فيه، وشكرا له أنه سلّمَ الأمانة إلى الجيش، ولم يترك الوطن، وقد تعرض للمحاكمة والمسألة، تاركا نفسه لسلطة القانون، محترما كل المؤسسات، وبذلك المسار ضمن لمصر أن تسرع خطاها نحو التقدم، والبناء، والتحديث، وأن تحفظ تاريخ الأجيال الحالية، والقادمة، بمشاركة المصريين جميعا.