
فى قضية نهر النيل، ومفاجآته الحساسة، والخطيرة، لمصر، أصبحنا فى حاجة ماسة إلى رسالة للشعب الإثيوبى، يجب أن تسبق رسالتنا للسياسيين والحكومات هناك، لأن الإثيوبيين أشقاؤنا، ولا ضير أن نذكر مآثر النهر، والهضبة الإثيوبية، والحبشة، فطمى النيل والمياه يأتيان من هناك..
لعبة المياه، والتفاوض حولها، ليست من واجبات الحكومات فقط، فالمياه تخص الشعوب أكثر، مثل الهواء، والشمس، نتشارك فيها جميعا، نحن البشر، تلك هبة الخالق لنا، هذه أول رسالة يجب أن نصيغها لإخواننا فى إثيوبيا، وهذا لا يمنعنا من أن نحشد أنفسنا، ونشجع أشقاءنا العرب، وغيرهم، على الاستثمار والتعاون مع إثيوبيا، لأن هذا حق علينا تجاه من نشعر نحوهم بالمحبة والتعاون المشترك، فيجب ألا ننزلق إلى لغة العداء أو التهديد، لإثيوبيا والإثيوبيين، التى يدفعنا إليها بعض الإخوة السودانيين، ومعظم السياسيين الإثيوبيين، لأننا لن نحارب إثيوبيا، ويجب ألا نحاربها، مهما تكن الأحاديث العدوانية والاستفزازية تجاهنا، أو الضغط علينا، ومن يدفعنا لذلك، خاصة فى قضية المياه (حياة أو موت)، وهذا لا يمنع من أن تكون خطاباتنا، ورسائلنا، إليهم واضحة وقوية، فنحن لسنا فى موقف ضعف أبدا، ولن نكون، فالخالق عز وجل عندما أعطى الهواء، والماء، والشمس، لم يجعل لأحد يدا أطول عليها، من الآخر، لأنها مصادر الحياة الأولى، ولا غنى عنها، ودولة المنبع (إثيوبيا)، ودولة الممر (السودان)، لا فضل لهما فى موارد المياه على دولة المصب (مصر)، عبر التاريخ، أو الأزل، الذى تشاركنا فيه بهذا النهر الخالد، فدول النهر الثلاث خدمت بعضها، حيث لم يكن للإثيوبيين، أو السودانيين، قدرة على حجز المياه، أو تخزينها، فى الماضى، ولن يكون فى المستقبل، ليس لغياب العلم والتكنولوجيا، ولكن لعدم احتياجاهما لها، فما يسقط على الهضبة الإثيوبية أضعاف الأضعاف، أكثر من 1000 مليار متر مكعب من المياه، ونحتاج للتعاون معا للاستفادة منها، وفى هذه الحالة لا يمكن بيع المياه، لأن تكلفة حجز تلك المياه عالية، وتحتاج للصرف، حتى يمكن ترويضها، أو استثمارها، وإعادة ضخها فى النهر، لهذا، فإن ما نحصل عليه من المياه حقنا، ويجب أن تعترف به إثيوبيا، مادامت قد قررت إقامة سدود على النهر.. تلك رسائل مهمة يجب أن نصيغها، ونقدمها للإخوة الإثيوبيين، بعقولنا نحن، وليس بعقول السياسيين الانتهازيين، سواء فى إثيوبيا أو السودان..
لقد نجحت مصر، إلى حد كبير، فى إدارة مفاوضات سد النهضة الإثيوبى، منذ إعلان المبادئ إلى الانتهاء منها، فى واشنطن، وتَهرب الإثيوبيين من توقيع، لأسباب داخلية، باستثمار عدائهم لمصر فى تحقيق مكاسب سياسية صغيرة لهم هناك فى بلدهم، على حساب مصر، حتى الآن، بل أكاد أقولها صراحة إن مصر وضعت الحكومة الإثيوبية الراهنة، أو القادمة، بعد مايو المقبل، فى مأزق حاد، فلقد أصبح لزاما عليها التوقيع على الاتفاق، الذى أُبرم فى واشنطن، ووقعت عليه مصر، بالأحرف الأولى، وحدها، بحضور ممثل البنك الدولى، والقوة العظمى (أمريكا)، فعدم التوقيع إثيوبيا يضعفها، بل يكشفها أمام المجتمع الدولى، ولعلى أقول إن كل التصريحات العنترية مثل إن النهر نهرنا هى نقاط ضعف لا قوة، لأن العالم كله يعرف أن النيل من الأنهار الدولية، ويجب الاتفاق على أى سدود تُغير فى طبيعته، والاشتراك فى أساليب الأمان به، بل فى إدارته، وملئه.
كما يجب أن نُصيغ رسائل للسودانيين والإثيوبيين، معا، عن المخاطر البيئية للسد عليهما، قبل آثاره السلبية علينا فى مصر، والتى تجعل حالة الحرب أقل تكلفة من مخاطر تركهما يفعلان بالنهر، بالشكل العشوائى، من البناء والتخطيط له، والعمل بهذا الأسلوب فيه، مما يجعل السد معيبا، وتؤثر سلامته على المنطقة عامة، والدول الثلاث خاصة، فهذا السد لا تتحمل إثيوبيا، مهما تكن قوتها، مسئولية إدارته، أو تشغيله وحدها، ولكنه يحتاج إلى خبرات متنوعة، وتعاون مع دول النهر الثلاث، فملء السد، وتشغيله، وضمان سلامته، 3 محاور، يجب أن يشترك فيها الجميع، بل أصحاب الخبرات فى المجتمع الدولى، وبقية دول النهر، وضمانات الالتزام يجب أن تكون ليست من إثيوبيا وحدها، بل من المجتمع الدولى، لأن تأثيراتها تضر بحركة الشعوب ككل، خاصة فى منطقة حساسة من العالم، كمصر.
إن كل التصريحات، التى أدلى بها الإثيوبيون والسودانيون، بعد الهروب من الاتفاق المبدئى، كانت كلها للاستهلاك المحلى، وليست حقيقية، لأن إثيوبيا لا تستطيع ملء السد، وتشغيله، دون اتفاق، وإلا عرّضت نفسها، والسد نفسه، لمخاطر جمة، لا تتحملها هى والمنطقة بأسرها.. تلك رسالة مهمة يجب أن تصل للحكومات، وتكون لها نظائر، لتصل إلى الشعبين فى إثيوبيا والسودان.
إن العنتريات، أو اللغة العدائية، لا محل لها، عندما يكون مستقبل الأمم والشعوب على المحك، وقضية نهر النيل ليست عادية، بل هى وجودية، لا تتحمل تلك المهاترات، أو الألاعيب السياسية، فى مصالح داخلية، تخصهم وحدهم، بل تجعل الشعوب متضررة.
إن ما أبدته مصر من التفاوض، والعزم على مشاركة كل الجيران (العرب والأفارقة) لن يتوقف، بل يجب أن يمتد، وأن تكون الحركة والشرح للشعوب قبل المسئولين، حتى يتحمل الكل جانبا من تأثيرات ومخاطر ما يحدث فى هذه القضية الحيوية على السلم والأمن العالميين، وعلى جميع الأطراف.
إن رسالتنا للأشقاء فى إثيوبيا يجب أن توضح أن مصر لم تكن أبدا، عبر تاريخها، دولة معتدية أو معادية، وليس هناك أى استعلاء من جانبها، مهما يعتقد أشقاؤها الأفارقة، مثلما حاول المعادون لها فى القارة زرع تلك البذرة غير الحقيقية، التى لا تتسم بها الشخصية المصرية على الإطلاق، وسبق أن زُرعت الفتنة نفسها بين مصر وأشقائها العرب، وأمكن تجاوزها بسياسات عاقلة وحكيمة لسنوات طويلة، شرحت معنى الأخوة بين المصريين والعرب والأفارقة، فيجب أن تُسقط رسالتنا للإثيوبيين كل دعاوى الهيمنة المصطنعة، وأن نشرح حاجتنا لبعضنا بروح إيجابية، وأن التعاون الإقليمى والقارى حتمى، كما يجب أن نتجه مباشرة إلى كسب الشعب الإثيوبى، فكسب الإثيوبيين يضمن أن يكون معنا السودانيون، وليس العكس، فالشعب الإثيوبى هو رهان المفاوض المصرى المتميز، وليس الحكومتين السودانية، أو الإثيوبية، وحدهما.