
.. وكأنما كنا ننتظر «فيروسا» صغيرا يظهر فى آسيا، وينتشر فى أوروبا، ليعرف العالم أنه أصبح قرية صغيرة، وأن ما يحدث فى بلد ما، وقارة بعينها، يصل تأثيره لأبعد نقطة فى العالم، وأننا جميعا فى الهم سواء، فقد اختار كورونا، أو الفيروس التاجى (كوفيد ـ 19) فرائسه الأولى بعناية فى ووهان، القلب الصناعى للصين، الدولة التى تشتهر بأنها المنافس الأول للدولة العظمى (أمريكا)، ثم ذهب إلى أوروبا فى منطقة صناعية أخرى (ميلانو)، المشهورة بأنها أرض الصناعة، والثانية فى العالم، التى تمتلك بنية أساسية صحية فائقة الجودة، ومن هنا انتشر الوباء فى كل أرجاء العالم، فى حالة نادرة الحدوث، أو مثيرا امتحانا، أو اختبارا، لكل دولة على حدة، وللنظام العالمى الراهن أجمع..
لقد سارعت أمريكا إلى التحصن بذاتها، حتى من أقرب جاراتها (كندا)، فقد انفصلا، وعزلا بعضهما عن بعض، كل منهما تحمى من بداخل حدودها فقط، حتى أوروبا، التى كانت بمنزلة الأخ الأكبر، والملاذ منذ الحرب العالمية الثانية حتى عام 2020، لم تجد الولايات المتحدة الأمريكية عند الشدة، فقد فقدتها، وكأن الدولة العظمى تريد الاستقالة من مهامها فى هذا الاتجاه، أو التخفف منها، وهذا الأمر ترجمة لما ظهر قبل هذا الفيروس بسنوات قليلة بوضوح، خاصة فى عهد دونالد ترامب، الرئيس الحالى، الذى دشن: أمريكا للأمريكيين فقط، ولا نريد مهاجرين جددا، وقرر أن يقيم سدودا، وحواجز، بينه وبين جيرانه الأمريكيين الآخرين فى قارتهم، حتى ظهر بينهم من يتكلم عن الأمريكى الأصلى المنشأ، والدخيل، رغم أن جميعهم مهاجرون من كل العالم!.
عالم جديد طل علينا، لم يتكون فجأة، أو يظهر هكذا، ولكنه كان فى طور التكوين، وساعد الفيروس على إنضاجه بسرعة فائقة، ولا أقول كشفه، فقد كان مكشوفا، ولكننا لم نكن نريد أن نصدق، فقرر كورونا، الذى يهاجم الجهاز التنفسى للبشر، تعريته، فى سابقة تاريخية فريدة، وكنا جميعا كأننا نكتشف كوكب أرض جديدا، ليس الذى نعيش عليه منذ آلاف السنين، فها هم زعماء، وقادة أوروبا، فقدوا وقارهم على خشبة المسرح السياسى، ونسوا فجأة أنهم قادة، وأنهم قدوة، وأن هلعهم، ولغتهم، قد تجعل العالم فى حالة من الهلع والذعر لا قبل لأحد بها، ولم يعرفها من قبل، فرئيس وزراء بريطانيا يطالب شعبه بالاستعداد للرحيل، ومفارقة الأهل، والأحبة، ورئيس فرنسا يصعق الفرنسيين فى بيوتهم بكلماته المرضى والأصحاء معا، والمستشارة الحكيمة فى ألمانيا قالت لشعبها: إن 60 إلى 70 % منكم سيصابون بالفيروس!. فهل هذه هى أوروبا، التى كنا نعرفها، أم أوروبا جديدة، قررت الاستقالة من صناعة الحضارة، والقدوة للإنسانية، والبشرية، كما عشنا، وعرفنا أول كل شيء، أو علم، أو ثقافة، أو حضارة تأتى من هناك، حتى اللغة، والمشاعر كانت مختلفة؟!.. لم نكن ننتظر ذلك، لكنه حدث، والآن أصبحت هناك مدن ومطارات مهجورة، أشباح يتحركون فى الشوارع.. فهل هذه هى الحضارة، والثقافة، والثورات الصناعية، والتكنولوجية الطبية، ووسائل الاتصال الحديثة؟!… ماذا حدث لهذا العالم؟!.. فقد تعطل، وتوقف، ولجأ إلى الأساليب القديمة (الحجز، والعزل، والإقامة منفردا) لوقف انتشار الفيروس.. فهل العولمة، أو العالم الواحد، أصبح أسيرا للحجز، والعزل، والخوف، أم ماذا حدث؟!.. هل تعطلت الآلة العلمية الجبارة، وتوقفت الجامعات العالمية، ومراكز الأبحاث العظيمة، والمستشفيات فائقة الجودة؟!.. إننا كلنا فى الانتظار، ولكن الصورة ناطقة بحال العالم الآن!. أما نحن فى بلادنا، فى مصر، والشرق الأوسط عموما، فيبدو علينا أننا لم نفاجأ، لم يصبنا الهلع والذعر، لم يفقد قادتنا، وزعماؤنا، إيمانهم، ولغتهم الرصينة، بل لجأوا إلى العمل، بهدوء، وسرعة، وترجمة مخاوفهم، وحماية شعبهم، بالأداء، وليس بالخطاب التهويلى، أو المفزع، فالأداء على قدر المسئولية، والخطر المحدق بنا، فالقادة، والزعماء فى أيديهم مقاليد الأمور، وليسوا ممثلين على المسرح، أو التلفاز، نرى ثقتهم بأنفسهم، وفى بلدهم، وترجمة الأعمال على أرض الواقع، وليس فى حملة تخويف، وإرعاب للبشرية، أو الكرة الأرضية، كما حدث فى أوروبا.. وهكذا كانت مصر نموذجا يحتذى به، رغم أن هناك قلة بين أبنائها خرجوا على كل القيم، والتقاليد، والأعراف، والأديان، والصلات، التى تجمعنا بهم، يهاجمون بلدهم فى الداخل والخارج، بحثا عن الاستفادة السياسية من حدث جلل، هذا الوباء، الذى لا يرحم، فكان ذلك وبالا عليهم، لأن شعبهم كشفهم على الإطلاق، واختبر كراهيتهم لبنى وطنهم، وجلدتهم، غير مفرقين بين الأشياء، التى من الممكن أن يختلفوا حولها، ففى محنة هذا الوباء كان من باب أولى أن يقفوا مع شعبهم، ووطنهم، ولكنهم كانوا كذلك فى قضية المياه، وتعطيش مصر، بسبب سد النهضة الإثيوبى، فقد كانوا فى موقف معادٍ لبلدهم، فهم ليسوا منا، ولن يكونوا.
فى اعتقادى أن الاختبار لم ينته بعد، فالأيام المقبلة ستحمل نتائج ما يحدث، ما علينا إلا ان نعمل، وكلنا إيمان أن نجتاز الخطر، فقدرة العالم، وقدرتنا، كأفراد، وأبناء وطن، ستكون زادنا.. نخاف على بلدنا، وأوطاننا، فعلينا، كمصريين، أن نتماسك، ونخاف على مصر أكثر، فنحن من البلاد الأكثر كثافة سكانية، ونعيش فى الدلتا حول النهر متجاورين أكثر من الطبيعى، ومازالت حركتنا فى الانتشار فى كل ربوع الوطن، خاصة فى الصحراء، محدودة، وغير مؤثرة، إلى حد كبير.. يجب أن ندرك أن كثافتنا السكانية المتلاصقة لم تعد نقطة قوة، بل أصبحت من نقاط الضعف والمخاوف، حاليا ومستقبلا، كما أن منظومتنا الصحية لا تتحمل انتشار هذا الوباء، و خروجه عن السيطرة، فعلينا الالتزام بالعزل، ومنع الاختلاط، ووقف التجمعات نهائيا، والحرص على وقف العدوى، فالدور هنا يقع على كل منا، فردا وجماعة، فالفيروس، الذى يفتك بجهاز التنفس، جاهز وسريع الانتشار، بمتواليات هندسية متضاعفة، وليست عددية، ويحتاج منا أن نقوى مناعتنا الشخصية، ونحمى الدولة، ومؤسساتها، ودعمها فى اتخاذ القرارات، وتنفيذ القوانين بصرامة ودقة، ولنا فى تجربة الصين قدوة فى الالتزام، والانضباط، فقدرة الدولة الوطنية، ومناعتها، هى شبكة الإنقاذ الوحيد، والأولى، فى مواجهة الوباء، أو الكارثة.