
رحل صديقى العاصف، قصة نجاح كتبت بالعرق والدم، فى زمن كان من الصعب أن يفلت، أو ينجح، فيه أحد. إنه د.عمرو عبدالسميع، كاتب الأهرام الملىء بالأفكار، والمفعم بالتميز، والذى جمع بين جنباته، وفى طياته، بوتقة من الإبداعات قل أن تجتمع فى شخص، ومارسها كهواية فاقت الاحتراف فى جودتها وجمالها.
بداية، د.عمرو، صديق، وزميل، لأكثر من 50 عاما، فقد كنا 3 ( عمرو عبدالسميع وعماد الدين أديب وأنا) لا نفترق، صباحا ومساء، فى دهاليز جامعة القاهرة، بين مدرجاتها، وما حولها، وكانت حواراتنا لا تنتهى، وكل منا يعرف عن زميله أدق تفاصيل حياته، فى كل المجالات، ليس فى العمل فقط، بل حتى عائليا، ونختلف، بل نتعارك، ولكن للأمانة لا يقبل أحدُ منا هزيمة للآخر، فى أى مجال، فقد كانت، ومازالت، عقولنا تتكامل فى حب الوطن، والصحافة، وكانت المهنية عنواننا، لا نخذل وطننا، ومهنتنا أبدا، مهما نواجه من شدائد الأيام، ومن هذه الوجهة، فإن شهادتى عن عمرو قد تكون غير مُبرأة من الهوى، ولكن على الجانب الآخر، اشتهر عنا أننا متنافسان، وأن هناك عراكا لا يتوقف بيننا، وكانت شخصية عمرو تساعد على ذلك، فهو الذى يهوى النقد، وقادر على التعبير بأعلى درجات السخرية، التى قد تولد الضغينة لدى البعض، وعند من لا يعرفون، ولذلك سأحاول أن أكون موضوعيا ومنطقيا، فنحن أمام حدث جلل, رحيل مفكر، أو مبدع، من جيلنا، لا يتكرر كثيرا، فرصيد عمرو من الكلمة، والفكرة، غنى، وثرى، ومن العمل الصحفى، والإعلامى، والفنى مُفرِط أيضا، فهو الكاتب، والمحاور «حالة حوار» الذى هضم كل الأجيال، واقترب من الجميع، وحرص الكبار على صداقته، والاستماع إليه، لأنهم قد يرون فيه صورتهم، أو إبداعهم، أو كلماتهم، لأن عمرو، القارئ النهم، هضم كل الأجيال، لا يقرأها فقط، ولكن يقف معها، على الخط الأول, مع المنتج، أو الكاتب، لأنه أكثر من قارئ، أو ناقد، فهو شريك فى الفهم، والنقد، والحوار، وكان ذلك مع كل الكبار، من هيكل وبهاء الدين، ولطفى الخولى، ونافع، وموسى صبرى، والحمامصى، إلى أصغر الأجيال، فلم يكن ينظر، عندما يقرأ، للشخص، بل إلى ما يقول، أو يَخُط، ولذلك فإن غِنى حواراته لا مثيل له، مكتوبة أو مرئية، ولكم أن تستخلصوا كم كانت حواراته ثرية بشكل مباشر مع أصحابها، وعبر رحلة الحياة الطويلة.
إن رصيد د.عمرو عبدالسميع من الثروة الفكرية كبير، وعميق، فلست من الذين يرون أن مشروعه لم يكتمل بعد، فقد عمل طوال حياته بلا توقف، ولأن غزارة الإنتاج، فى زمننا هذا، لا تأخذ بعضنا بالجدية الكافية ,بأنها تحتاج إلى نظرة أخرى أكثر تفحصا، لندرك أبعادها، وكيف تسهم فى تغييرنا ,فسوف نرى فيها ثورة اجتماعية، وثقافية، كُتبت بقلم هاوٍ، وسعى فيها إلى تغيير الناس والمجتمع، ولأن عمرو شخصية صعبة المراس، فقد جلد نفسه حتى يحقق ما يريد من تلك الثورة الفكرية، وأراد من الآخرين أن يكونوا مثله، وهذا مستحيل، وتلك معضلة عمرو، التى يجب أن نسامحه عليها، فقد أرادنا جميعا أن نكون أفضل، وذلك هدفه ونيته النبيلة، جزاه الله عنها كل خير.
لقد كنت فى هذه القصة الأكبر، لأننى تخرجت أولا، الدفعة الأولى فى عام 1975, إعلام القاهرة، التى كانت قصة وحدها، لأنها كلية فريدة فى زمانها، وفى أسلوب اختيار طلابها، وجئت الأهرام, حبى وصحيفتى الأولى، التى لا تفارق أيامى، والتى لا أستطيع أن أعمل بعيدا عنها، موطن جدى وعمى، فأنا من الجيل الثالث فى عائلتى بمهنة الصحافة والأهرام ,وبعدها جاء الأخوان عمرو وعماد، اللذان، لمهارتهما، وإتقانهما فن الإعلام، بجميع مجالاته، سميت دفعتهما الثانية فى التخرج دفعة «عمرو وعماد».
لقد رحل عن عالمنا الدكتور عمرو عبدالسميع، الصحفى الكبير، فى أقسى أيام يعيشها الوطن, زمن وباء كورونا، رحل عمرو، ولم نستطع أن نصلى عليه، ولكن ضميرنا وعقولنا تصلى عليه يوميا، نقرأ على روجه القرآن الكريم، ونترحم على الشاب، والشيخ، الذى أعطى الحياة، ومهنة الصحافة والإعلام، كل تفكيره، وقدرته، ومهاراته، وهو للحق قصة كبيرة، وفريدة فى معناها، ومغزاها، وقدرتها على التأثير، وصناعة الدور، والتعبير عن الوطن، والفن، والجمال، والحياة بكل تفاصيلها، ومشتملاتها. كما كان عمرو مثقفا موسوعيا، يقرأ، ويكتب، فتلك حياته، لا يعرف غيرها، ولم لا؟..وهو ابن عبدالسميع عبد الله، رسام وفنان الكاريكاتير، الفذ فى عصره، ولأن الابن سر أبيه، فإن عمرو، بدأ حياته الصحفية بالكاريكاتير، وكان رساما يملك ناصية الفكرة، يرسم وأنبهر، وأقول له سوف تتفوق على أبيك، فيضحك، وفى يوم أخذت رسوماته إلى أستاذنا الراحل إبراهيم نافع، فشجعها، وقرر أن تكون زاوية فى الصحافة الاقتصادية، فلأول مرة تكون هناك «ضحكة» بين كلمات الاقتصاد!. أما زميلنا الثالث عماد الدين أديب، فقد شكل معنا، جيلا جديدا فى الأهرام، لا نذهب إلى مكان إلا ونأخذ بعضنا إلى هناك (جريدتى الحياة والشرق الأوسط نموذجا)، فقد كنا نحن الثلاثة مشاركين فى التفكير، وإصدار الصحف، فى جدة أو القاهرة. لقد عُين عمرو، المتفوق دائما، معيدا بالجامعة، وظل قلبه متعلقا بالأستاذية حتى حصل على الدكتوراه، ثم تفرغ، بتشجيع منا، ومخاوف كثيرة منه، للصحافة، وأشهد أنه تعامل معها كأستاذ للإعلام والصحافة، فمنذ اليوم الأول يعلم الطلاب، ويهيئ الصحفيين للعمل بجدية وإخلاص، عُرف واشتْهر بهما، صحيح أن د.عمرو عبد السميع كان يملك ملفات لكل كبيرة وصغيرة فى الصحافة، وفى الفن والجمال أيضا، لكنه لم يخفيها أبدا، فقد كانت متاحة لكل أصدقائه، وتلاميذه، ولا يخفها. وأخيرا، قد تختلف السبل بين الناس عادة، والمجالات والرؤى فى الحياة أيضا، لكن تبقى الحقيقة، التى لا يمكن أن نهرب منها, حقيقة الموت، فكل التحية إلى روح أخى وصديقى وزميلى الموهوب الموسوعى د.عمرو عبد السميع، الذى هو فى رحاب ربه الآن، الذى عنده كل الودائع، ولا تضيع أبدا.
يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته وجميع من سبقونا الى دار الحق وخالص العزاء والصبر والمواساه