
فى البداية، يجب أن أعتذر عن تأخرى فى تقديم التحية إلى روحٍ خالدة، وشخصية عالمية الرأى والرؤية، رحلت عن عالمنا، بعد أن ملأت حياتنا، طوال حياتها المثمرة، بفكر ناضج، ومتجدد، وفلسفة إسلامية معاصرة، نادرا ما تجدها. أعنى بتلك الشخصية الدكتور محمود حمدى زقزوق ، الذى ولد فى ديسمبر 1933، ورحل فى أبريل الماضى، ذلك الفيلسوف الإسلامى، الذى ظلمته الوزارة، التى تقلدها 15 عاما، وتركها عقب أحداث يناير 2011 ، ورحل وسط أحداث الحظر، وتطورات فيروس «كورونا»، الذى اجتاح الدنيا من حولنا، وأنسانا واجباتنا، وغيَّر فى أولوياتنا، وقدم وأخر أشياء عديدة.
لقد أيقظتنى كتابات وشخصية الدكتور زقزوق الأثيرة، ولغته، وإنتاجه الوفير، فنبتهنى إلى خطورة النسيان، الذى هو آفة من آفات مجتمعنا، فى ترك الجواهر الفكرية، وعدم تنبيه المعاصرين إلى ما يملكونه من هذه اللآلئ، التى يجب أن يستفيدوا منها فى حياتهم اليومية، فرحيل مثل هؤلاء العلماء الأجلاء يستوجب اليقظة، خاصة إذا كانوا فى قامة وقيمة الدكتور زقزوق، صاحب الفكر المتجدد، الذى أصبح فجأة من تراثنا، أو ميراثنا.
الدكتور حمدى زقزوق، الذى افتخر به، بلدياتى، فهو من الدقهلية – قرية الضهرية – مركز شربين، وحينما أمر على بلدته، وأنا فى طريقى إلى بلدى، أشير بيدىّ، لكل من معى، إلى بلد الدكتور زقزوق، الذى طاف بالفكر الإسلامى شرقا وغربا، وجوَّدَ، وأنتجَ العديد من المؤلفات، فهو فيلسوف معاصر بكل معنى الكلمة، يعيش بيننا، ولا يحب الظهور، ويمقت المجاملة، ولعلها جزء من خصائص شخصيته المتفردة، وعلى الرغم من أن حياته كلها، أو معظمها، كانت فى الواجهة والضوء، لكنه كان من الشخصيات الباحثة عن العلم، وليس عن الظهور، فتستطيع بكل أمانة أن تطلق عليه «التصوف العلمى، المصحوب بالزهد فى الدنيا، والبُعد عن الأنظار، والتفرغ لغاية واحدة، هى خدمة الدين والإنسانية، لبلوغ الغاية الأسمى، وهى رضا الله، والنجاح الحقيقى»، ولذلك كان إنتاجه وكتبه، بل مذكراته، الغنية والواضحة، معبرة عن مسيرته، وغناها الفكرى، وتطورها الإدارى.
أما عن عمل الدكتور زقزوق المؤسسى، فبكل أمانة إذا كنا نملك الآن مؤسسة مصرية للأوقاف تعمل إلى جوار الأزهر الشريف فى الفكر الدينى المتجدد، ومحاربة التطرف والإرهاب، فأنها ترجع إلى رؤية الدكتور زقزوق الناجعة فى إدارة هذه المؤسسة، وإعادة هيكلتها، ومتابعة الجوامع والزوايا، وتحديث لائحة العاملين بها، ومواكبتهم للعصر، وهو ما يُبنى عليه الآن فى تطوير وزارة الأوقاف، ويكفينا، للدلالة على ذلك، «دائرة المعارف الإسلامية»، التى قدمت إسهاما مصريا فى ترجمات معانى القرآن الكريم، والموسوعات المتخصصة، والتى اهتمت، أيضا، بالأخلاق، وقِيم الدين، والتشريعات، والحضارة، والتحديث، والتصنيف المتطور.
كما أننا إذا أبحرنا فى فكرالدكتور زقزوق؛ فسنجد أنه من المجددين، والفلاسفة، الذين عاشوا يطالبون بتجديد الخطاب الدينى، فهو من نبه إلى أننا نعيش فى عصر «الاجترار الثقافى»، حيث إن ضرورات العصر، ومتطلباته، تقتضى تنشيط الفكر الإسلامى، وتجديده، من خلال الاجتهاد وليس التقليد، كما كان الدكتور زقزوق واعيا، بل مدركا، أن النصوص، التى يرجع إليها الفقهاء تحتاج إلى من يُمعن التفكير فيها أكثر وأكثر، حيث إن مستجدات كل عصر لا تنتهى، ومن ثم يتطلب التعامل مع واقع الحياة بفكر متجدد، واجتهاد لا يتعارض مع ثوابتنا، ومقدساتنا، فهو يؤمن بأن الاجتهاد فى كل علومه هو واقع الحركة فى الإسلام، وأن لكل عصر فقهاءه، الذين إذا توقفوا عن الاجتهاد نكون مقصرين، بل بعيدين عن حياة الناس، وتطوراتهم، واحتياجاتهم، من الدين، وقِيمه، وأخلاقه. وإذا تحدثنا عن التراث العلمى للدكتور زقزوق، خاصة عن الجهاد والخلافة فى الإسلام، فهو جدير بإعادة القراءة، والفهم، من حولنا، حتى نحقق الهدف المنشود منه، فى ضوء متغيرات العصر، وتطوراته، وعلى الأخص مؤلفاته المتنوعة، والعميقة، والشيقة، حول تطورات الفكر الإسلامى، وتأثره، وتفاعله مع التيارات المعاصرة، وبخاصة العولمة، والتنوير، وما يتصل بهما من نقاش متجدد، حول الترشيد والتجديد للفكر الدينى، والمرتبطة بهما ثورة المعلومات، والاتصالات، والتكنولوجيا، والفضائيات، فالإسلام دين لا يستطيع أن يعزل نفسه عن كل ما يدور حوله، فى هذا العصر، أو أى عصر مقبل، خاصة أن جوهره هو الحياة بكل أبعادها، وجوانبها، مادية كانت أو روحية. إن الراحل الكريم، استطاع، عبر كتاباته وكتبه، أن يزيح الركام، الذى صنعه السلفيون، والدواعش، والإخوان، والمتطرفون، بكل أشكالهم، من الفكر السقيم، والتخلف، والجمود، والقصور، فى مسيرة المسلمين، ليس بسبب الدين، وإنما بسبب عقولهم التى تحجّرت، وقلوبهم التى أُغلقت، وأفهامهم التى قَصِرت عن إدراك جواهر الدين الإسلامى، فنحن أمام مفكر حقيقى أطلق العنان لعقله فى الإبداع، وآمن بأن الإسلام يقوم على التنوير، وأن له دعامتين، هما الدين والعقل، وما بينهما ليس تناقضا أو صراعا، وإنما تناغم وانسجام.
لقد أدرك الدكتور زقزوق، ووعىَ أهمية الفلسفة فى صياغة الفكر الدينى الخلاّق، وربط بين الحضارات الشرقية والغربية معا، ولم يجد تناقضا أو غضاضة بين الحضارات وتنوعها، والتقدم وصناعته، وبين رؤية الإسلام لعالمه، ولم يقف ضد الحضارات الغربية، ورؤى المستشرقين الدعائية، واستفاد منهم، وربط بين ديكارت الغربى والغزالى الشرقى فى دراساته بجودة وابتكار، كما أن الدكتور زقزوق لم ينشغل فى دراساته الإسلامية بالأمور الثانوية، والقضايا الهامشية، ليشغل الناس بتوافه الأمور، بل لمس جواهر الأشياء، ولم يشعر مع الغربيين، أو المستشرقين بأى نوع من الضعف، أو الدنو، بل بادلهم عقلا بعقل وفكرا بفكر. فى اعتقادى، أن الدكتور زقزوق عقل كبير، وفكر وفير، لا أستطيع أن أَلِمَّ به فى مقال، ولكنه موجود، ومكتوب بلغة بليغة، وجميلة، لكل باحث يريد أن يعرف، أو يتعلم، ليدرك أننا نملك علماء مجددين فى كل الأزمنة والأيام. وأخيرا، لا يسعنا، فى هذا المقام، إلا أن نوجه التحية إلى روح الدكتور زقزوق الطاهرة، ونعزى الأزهر الشريف، والأوقاف، وأسرته الصغيرة، وزوجته الألمانية، التى اعتنقت الإسلام على يده، وابنته، التى عاشت الحضارتين الإسلامية والغربية معا، وكوّنَ بهما أسرة نموذجية، ففى رحاب الله يا دكتور زقزوق.