مقالاتمقالات الأهرام اليومى

كتابان لأبوالغيط.. هدية لأبناء المنسى ولكل أبنائنا

أسامة سرايا

أوراق كثيرة، وكتب، وكتابات تمر بحياتنا، عبر مراحل التاريخ، ترصد، وتحلل، وتؤرخ، لكننا نتساءل دائما: ما الذى يعيش منها؟.. فليس كل ما يُكتب يعيش، لكن هناك دائما ما يمكث فى الأرض، وهو ما ينفع الناس.

مؤخرا، قرأت خبر استقبال السفير أحمد أبوالغيط، أمين عام جامعة الدول العربية الثامن والحالى، ووزير خارجية مصر (2004- 2011)، أبناء وأسرة الشهيد العقيد أركان حرب أحمد صابر المنسى (1978- 2017)، الذى رحل بعد أن سطر بدمائه الذكية، هو وزملاؤه، بطولة ستعيش بيننا أبد الدهر، لتؤكد لنا أن مصر بلد متسامح، وحر، وأبىُّ، يرفض الإرهاب والتطرف أسلوبا للحياة والحكم، حيث تحدث معهم عن أبيهم، وما زرعه فينا من قيم تجسد مصريتنا، وأهداهما كتابيه “شاهد على الحرب والسلام”. و”شهادتى”.

وقد رصد أبوالغيط فى الكتاب الأول حروب مصر فى العصر الحديث “48 و49 و 56 و67، وصولا إلى حرب 1973″، ساردا روايات وقصصا تفصيلية تاريخية لأحداث الحروب، وصولا إلى السلام ومفاوضاته المرهقة والصعبة، ليس بعمق المتابع أو المسئول فقط، ولكن أيضا بصدق وإخلاص وصل إلى درجة التجرد، والتى قلما يصل إليها الإنسان، لكى يكون متاحا لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء، ولا يهرب من تحمل المسئوليات والتبعات، من الأجيال القادمة.

وفى الكتاب الثانى أدلى أبوالغيط بشهادته عن دوره عندما أصبح وزيرا للخارجية لمدة 7 سنوات مليئة بالصعوبات، مثَّلَ مصر خلالها، وصاغ السياسات الخارجية، فى مختلف المحافل، وعبر الأحداث، وقد سبق أن كتب عنهما بعنوان “المهمة الانتحارية فى الزمن الصعب”، وعلى الفور رجعت إليهما، وأعدت القراءة بتمّعُن- فنحن فى زمن عادت تطل فيه تحديات الحروب على بر مصر من جديد، ونرى حشودا حول النهر، وفى البحر، والبر، تحاصرنا فى كل الاتجاهات الجغرافية، كلا بأسلوبه؛ من يمارس التجارة باسم الدين، أو يسرق المياه، أو الأرض، ويخرب العقول، والمنشآت فى الداخل، والخارج، ويحاول أن يُخرجنا من حالتنا، التى تركزت حول البناء والتنمية، منذ أن خرجنا من كارثة 67 بانتصار 73، وبناء جيش حديث مُلهم وقوى، لا يعتدى ولكن يحرس مصالح وقِيم مصر، ومؤمن بعروبته- لكى أحاول أن أسترجع ما مر بوطننا من محن، وكيف اجتازها، وهذا يحتاج منا جميعا هذا الاهتمام، حتى لا تَسرقنا الدعايات، أو تصل بنا إلى غياب الوعى، كما حدث فى فترات مختلفة من تاريخنا، والأكاذيب المنتجة والمروجة لها، التى أصبحت مهنة معاصرة لها أساطينها، ومؤسساتها، التى تعمل باستمرار، وتضخ، وتخرج كتابات، ودراسات تحمل شكلا جميلا، بل أسلوبا يَفيض باتجاهات تهز العقول، وتخرب النفوس، ومضمون مغلّف برؤى تدميرية تمهد للثورات، والفوضى العارمة، التى أصبحت لديهم خلاَّقة..

أعود إلى كتابىّ السفير أحمد أبوالغيط، اللذين أؤكد صعوبة عرضهما فى هذه المساحة، ولكن ما يجعلنى مطمئنا إلى أنهما وصلا إلى أكبر عدد من المصريين على اختلاف مستوياتهم، وكذلك العرب، الطبعات المتلاحقة والمتتابعة، التى صدرت منهما، فبين يدىَّ الطبعة “الحادية عشرة- الترجمة الإنجليزية”، وفى هذين الكتابين تحدث أبوالغيط بصدق وصراحة عن اضمحلال الدور المصرى فى فترة من الفترات، وخلط الأوراق بين السياسة والدبلوماسية، ومرتكزات السياسة الخارجية، وأسبابها، ودوافعها، والظروف التى دفعت إلى اتخاذ بعض القرارات، والعوامل التى تحكم صانع القرار، وكيف نجح فى تفنيد أكاذيب من يحاولون أن يجعلوا من مصر “إيران” أخرى، أو تركيا جديدة فى المنطقة، بحجج مختلفة، فى أسلوب السياسة الخارجية، وكيف خرجنا من هذا المأزق، واتجهنا إلى أن نجعل من مصر بلدا يحافظ على تأثيره، ورسالتة الإنسانية السلمية..

إن الكتابين يدعوان إلى أن ندرس مليا، وبعمق، الأوضاع الإقليمية والدولية فى عالم اليوم، وأن نعرف أصدقاءنا، وخصومنا الحاليين، والمحتملين، كما يجب أن ندرس كل عثراتنا فى تاريخنا المعاصر، سواء فى بداية الدولة الحديثة، وعصر محمد على، وربما مع على بك الكبير، فى الربع الأخير من القرن”18″.

إننى على يقين أننا نسعى للانتصار فى معاركنا الراهنة، وفق الثوابت التاريخية، والقوانين الدولية، سواء مع جيراننا الأتراك، أو الإيرانيين، أو حتى فى أعالى النيل مع إثيوبيا حول المياه، وهذا يستوجب أن نعرف أخطاءنا الكثيرة فى إدارتنا للصراع مع إسرائيل، خاصة فى أثناء حرب فلسطين الأولى فى عامى 48 و49، وسلسلة الحروب التالية فى أعوام 56 و67 1973، فلقد حاربت مصر فى معارك كثيرة على مدى قرنين، وكان لها انتصارات وانكسارات، ولا يغيب عنها دائما أن الحرب هى مجرد امتداد للسياسة بوسائل أخرى.

نحن أمام شهادة تاريخية بكل المقاييس الأخلاقية والعلمية للسفير أحمد أبوالغيط، الذى قام بأدوار كثيرة فى مرحلتى حكم الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك، على مدى 45 عاما من تاريخنا، كان خلالها فى مواقع متعددة للمسئولية، وتمتع بدقة متناهية، وأمانة فائقة، جعلته يعرف الكثير، ويرصده، ويحلله بموضوعية كاملة، وهو الذى لم يعطِ نفسه أكثر من حقها، ولم يَغبن حق الآخرين، فقد ذكر كل الأدوار منذ عمله دبلوماسيا فى مكتب مستشار الأمن القومى محمد حافظ إسماعيل، وأسامة الباز مستشار الرئيسين لأكثر من 3 عقود، وصولا إلى وزراء الخارجية المتعاقبين، وعمله معهم ما بين دبلوماسى وسفير، ثم تقلده منصب وزير، حيث إن موقعه جعله مطلعا على أكثر من جهاز من أجهزة الدولة، ليرصد الأدوار والمواقع، ويجعل القارئ كأنه يعيش فيها، ليس داخل دواوين وسفارات وزارة الخارجية فقط، ولكن فى جميع أجهزة الدولة المتنوعة، وأجاب، من حيث لم يقصد، بالعقل الواعي، عن سؤال يلح على الكثير من الليبراليين أصحاب المدارس الغربية فى التفكير: كيف تتحقق لمصر هذه الانتصارات، أو أن تقف ضد أطماع غربية، ومؤسسات كبرى فى عالمنا، ونحن إمكاناتنا محدودة، على أكثر من صعيد.. وكيف لنا أن نحقق أهدافنا ونحن تحت حكم الرجل الواحد، أو كما يطلقون عليه إرادة ونزوات حاكم ذى نفوذ سياسى مطلق، ولعبت معه الحكومة دورا السكرتارية التكنوقراطية، التى تنفذ توجيهات الرئيس، ولم تكن مصر محكومة بنظام سياسى يعمل على أسس من المراجعات، والتوازنات، والمراقبة الشعبية، بل كانت دولة ترأسها فرد واحد، يمتلك سلطات واسعة؟.. فأجاب، ولم يخف أو يتردد، وهو يكتب فى ظروف صعبة، وطارئة على المجتمع، عقب ثورات وهيجان شعبى، من خلال سطور الكتاب، أن مصر بلد ذو طبيعة خاصة، وتحديات كبيرة، وأن مؤسساتنا تعمل لمصلحة الوطن والشعب، ولا يمكن أن نقيس طبيعة النظام فيها بالقياسات الغربية، فمصر لم يكن لها ديكتاتوريون، كما عرفوا فى التعريفات العربية، أو أمريكا اللاتينية، ولكننا كنا مختلفين، برغم أن نظامنا السياسى لم يتطور بعد، ولم يكن قادرا على أن يكون ديمقراطيا بمقاييسهم الغربية، أو كما يريدون أن يروا، دون قياس لطبيعة الشعوب، ودرجة التقدم.

إن الدول لا تقوم على أفكار مستوردة، أو من كتب بالية، تستلهم مناهج التطرف، والإرهاب، ولكن تقوم على عقول قادرة، وأكتاف أبنائها، الذين يتطورون، ويرصدون واقعهم، ومؤمنين بقيم مصر وحضارتها القديمة- المتجددة، ويمنعون التدخلات الخارجية فى شأنها بشجاعة الأحرار، وكيف أنها تعلى من قيمة الإنسان وظروفه، ولا تتعالى على أحد، وتتطلع إلى المستقبل بثقة، ويقين أنها تملكه، قد تشعر بأن حاضرها وماضيها يظلمانها، لكن هذا لا يمنعها من التطلع إلى المستقبل، الذى تريده.. كيف أننا أمة من البسطاء، أو الفقراء، أو حتى من النخب، لا نخجل من حقائق أنفسنا، أو من حالتنا، ونملك روح البطولة، بل عقلية الدول العظمى والغنية، أوضاعنا نسعى لتغييرها، ولكننا نواجه أعداء لا يرغبون فى ذلك من الخارج، لكن أخطرهم أعداء الداخل، من التيارات الإرهابية، والمتطرفة، والجماعات الدينية، والنخب المثقفة، أو المتعلمة فى الخارج، لكنها تستنكف أن تدرس أوضاعنا الداخلية، وتطورنا الحضارى، وتحاول أن تتعالى علينا، فنجدها تفرز أفكارا أقل تأثير لها أنها تثير غضب الشباب ولا تدفعهم لتغيير مجتمعاتهم أو بنائها بدقة وتدرُج، تستورد أفكار المتطرفين والإرهابيين وجماعات الإسلام السياسى، وتهددنا بها، باستخدام الآليات والأفكار الغربية والمستوردة، حتى تستولى على عقول الشباب، وتغيب الوعى، أو تفقده، لبعض الوقت، لكن البلاد، التى تملك عقولا وصلابة مثل أحمد أبوالغيط والمنسى.. وغيرهما لن تنهزم، أو تتقهقر، أمام أفكار قديمة، أو جديدة، مغلفة بلغة الآخرين، فمجتمعنا لم يسقط لكى تقوم الدولة من جديد، ولأن من يسقط لا يقوم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى