
أسامة سرايا
يَعز علينا فى مصر أن نرى الإماراتيين، حكومة وشعبا، يتعرضون لتشويه مواقفهم الوطنية، ودورهم “العروبى” الأصيل والقوىِّ، خاصة فى تحركهم الأخير لمواجهة ضم الأراضى الفلسطينية لدولة الاحتلال الإسرائيلى.
التحرك الإماراتى شكل للبعض، من الذين يعرفون طبيعة الصراع “العربى، الفلسطينى- الإسرائيلى”، وديناميات وأساليب تحركه وإدارته، اختراقا جوهريا جاء فى الوقت المناسب، ليفك انفجارا، ويحافظ على الأرض، عبر “اتفاق” يوقف ضم الأراضى، التى يَجرى حولها التفاوض، وصولا للدولة المرتقبة الفلسطينية.
لا يشكل “الاتفاق” الإماراتى تدخلا فى الشأن الفلسطينى، ولم يلغِ اتفاقا عربيا، ملتزما بـ”المبادرة العربية للسلام، والعلاقات والتطبيع مقابل الأرض والدولة”، الأمر الذى يجعلنا نصفه بأنه خطوة جديدة شبيهة بـ”أوسلو2″، وهو الاتفاق “الفلسطينى- الإسرائيلى”، الذى مكن عرفات ورفاقه من العودة من الخارج إلى الداخل الفلسطينى، ليناضلوا على الأرض، لاسترداد حقوقهم ودولتهم، والذى شكل اختراقا جوهريا للفلسطينيين ومستقبلهم، وشكل بالنسبة للمنطقة الاتفاق الثالث.
مبادرة الرئيس السادات لمصر، التى استبقت الجميع، أوجدت واقعا لحل “الصراع العربى،الفلسطينى- الإسرائيلى” ككل، وبعدها الأردن، وهى الاتفاقات، التى حصلت فيها الدول العربية، عبر التفاوض، ما يمكن أن نقول عنه إنه أكثر مما حصلت عليه عبر الحروب واستمرار الصراع، حيث حل التجميد لعقود تآكلت فيها القضايا العربية كلها، وتفككت معظم دولنا، حتى إننا الآن لا نواجه إسرائيل وحدها إقليميا، بل نواجه تحديات أصعب وأشق من كل جيراننا: الأتراك، والإيرانيون، بل حتى الإثيوبيون.
لم يعد سلاح التَرك والوقت فى مصلحة من لا يعملون، بل يؤدى إلى التفكك، وأصبحت فلسطين إثنين (غزة والضفة)، ولم تعد قضايانا العربية مقصورة على فلسطين وحدها، بل امتدت إلى سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن، وليبيا، والصومال.. ودولا أخرى غيرها، بل المنطقة كلها فى مفترق طرق، ومهددة، تحت وطأة الجمود، والتدخلات الخارجية المخيفة.
يجب أن يستفيد الفلسطينيون من التحرك الإماراتى، ويبنوا عليه، وألا يقعوا فريسة لمن يتاجرون بقضيتهم، لأسباب نعرفها جميعا، لأن فلسطين غالية، وشعبها أغلى شعوبنا، وستظل قضيتهم، الدقيقة والصعبة، جزءا من ضميرنا لا يضيع، ولن نيأس من استردادها، وعودتها، وتحريرها، واستقلالها، ولن يستقيم حال منطقتنا، وعالمنا العربى، بسلام إقليمى، أو تعايش حقيقى، إلا باسترداد الفلسطينيين حقوقهم ودولتهم.
لكل هذه الظروف، بل المعطيات، شكلت فلسطين جاذبية، وحالة، أو عاطفة، لا تنزوى، وكانت القضية الحيوية فرصة ذهبية لكل متآمر ومستغل لجزء من أراضينا العربية يركض ليركب الحصان الفلسطينى، لا ليصل بهم إلى حقوقهم، ولكن ليستغلهم ويستغلنا فى استعمارنا، وتحطيم بلادنا ودولنا.. وهكذا فعلت تركيا وإيران أخيرا لكى تستوليا على عواصم عربية، ويُهجِّرا الشعوب، ويُغيِّرا التركيبة الديموغرافية، فى حين أنهما كانتا أول من أقام علاقات وطيدة مع إسرائيل، بل استطاعتا تمكينها عبر عقود ومراحل الصراع من الوجود فى المنطقة على حساب الشعب الفلسطينى، والآن نرى تواطؤًا للالتفاف حول المصالح العربية لأسباب مختلفة.. فهل نقع فريسة لهذه الأبواق (تركيا، وقطر، وإيران، والمتأسلمين على مختلف طوائفهم)، وننسى ما فعلته، وتفعله، دولة الإمارات للقضايا العربية عموما، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، فهى الدولة التى نعتز بنجاحاتها الاقتصادية، والسياسية، ومكانتها العالمية، التى حققتها بفضل قياداتها، ورؤيتها السليمة، والصائبة، واختياراتها الدقيقة للقرار الأصوب لمصلحة شعبها، مع مراعاتها للقيم، بل الهوية العربية والإسلامية؟!
نحن فى مصر ندرك مكانة الإمارات عند كل تطور، أو أزمة، سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، فالإمارات العربية تَقودُ وتَهُبُ للمساعدة، بل لقيادة دفة القرار الصائب، وتعمل بحماس منقطع النظير، بل تشعر فى حركتها بأنها لا تساعد، ولا تمد الأيادى فقط، بل إنها تعمل معك يدا بيد، وكأنها تعمل لمصحة نفسها، وبلدها، وبذلك اكتسبت الدولة والشعب الإماراتى شعبية ومحبة فى عالمهما، ولعل ذلك هو إرث مؤسس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان،. وحافظ عليه أبناؤه، الذين أثبتت التجارب العربية أن تعليمهم وثقافتهم امتزجت بالرؤية الشاملة والعالمية لعالمنا المعاصر، وكانوا أكثر قدرة على اتخاذ القرار لدخول العصر، وتجنيب بلدهم مصائب وصعوبات وقع فيها غيرهم، لأن صواب الرؤية، والقدرة على النفاذ، والشجاعة كانت لا تنقصهم للتقدم والولوج نحو روح العصر، حتى أصبحت الإمارات نموذجا يُحتذى به فى منطقتنا.
وعودة إلى “الاختراق” الإماراتى، الذى أحدثه الشيخ محمد بن زايد، فنجد أنه وضع إسرائيل أمام حقائق مغايرة على الأرض، كما أعاد، بشكل عملى، تأكيد أن دخول إسرائيل فى علاقات طبيعية مع دول المنطقة يظل مرهونا بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ترتكز بالأساس على حل الدولتين.
إنها “لحظة سلام”، كما سماها الشيخ محمد بن راشد، إلى من حاولوا أن يصنعوا انقساما إماراتيا بين أبوظبى ودبى، وكان يجب على الفصائل الفلسطينية المنقسمة على نفسها، بل منقسمة بين دولتين بشكل منظور، وأكثر من دولة أو كيان بشكل غير منظور، وكان على الفلسطينين جميعا، ووفقا لقضيتهم ذات الفرص الضائعة، والتى ثبت أن رهانها على الوقت لا يلعب لمصلحتها على الإطلاق- أن يغيروا، هذه المرة، من آليات الرفض، أو السعى إلى الانقسام، بل يسارعوا للذهاب إلى الإمارات، ويطلعوا بشكل مباشر، على تفصيلات “الاتفاق”، بل يتفقوا معها على أسلوب إدارته، وتفعيله، فى إطار تقسيم الأدوار مع حكام الإمارات، كشكل من أشكال إدارة المفاوضات، ومعرفة تفاصيل ودقائق “الاتفاق”.
يبقى لنا أن نقول إن كل الأطراف، التى حاولت إفساد العلاقة بين الفلسطينيين والإماراتيين، أو الموقف العربى، الداعم الحقيقى للقضية الفلسطينية، مآلها الفشل والانكشاف أمام الرأى العام العربى والفلسطينى، لأن الأطراف، التى قادت الحملة على “الاتفاق” نياتها معروفة، بل هى أكبر الداعمين للمشروع الإسرائيلى فى المنطقة، خاصة تركيا وقطر، وحملاتها مغرضة ضد الإمارات، فى حين أن هذه الأطراف أكثر “العرابين” لإسرائيل فى منطقتنا العربية، أو الشرق الأوسط، تحمل آراء ورؤى متناقضة، وكأنها تسعى للحصول على التوكيل الحصرى لإسرائيل فى المنطقة، لتقايض به المواقف الأخرى، وهنا فإن موقفها يقف عاريا أمام الشارعين العربى والفلسطينى، ومتناقضا مع أدوارها وسياساتها الإقليمية والعالمية.
لقد ظهر الدور الإماراتى فى هذا “الاتفاق” بالقدرة على التأثير، والفعل، والحل، لأن الإماراتيين لا يحتاجون إلى شىء بقدر حاجتهم إلى مساعدة فلسطين وشعبها.