
ما بين منحة الحياة ومحنة الرحيل نستخلص قيمة عمرنا، ونَسبر غَور الزمن، خاصة فى الأوقات الدقيقة والصعبة، ولا نستطيع. عندما نصف أيامنا الراهنة ترانا نطفو على سطحها، حيث فيروس كورونا ، الذى يهددنا صباحا ومساء، والصراعات، التى وصلت حدتها إلى أننا نُجرى مباحثات فى أعالى النيل، لتأمين سريان النهر، الذى ضَمِنَ حياتنا، وأقام حضارتنا، منذ بدء الخليقة إلى يومنا الراهن.
ففى الوباء نخاف على الهواء والتنفس عبر كمامة، وفى الصراعات نخاف على الماء، والاثنان ( الهواء والماء ) بهما تَجرى الحياة، ولا حياة دونهما، وقد جعلهما الخالق أغلى وأرخص الأشياء (لا يُباعان ولا يُشتريان)، وما بينهما مصر والمصريون يبنون فى كل مجال، وفى أكبر ورشة تنمية وعمران فى تاريخهم الحديث، لتأمين الأرزاق، وحماية الناس، منذ أن قامت الدولة، واستقرت الحدود، وفى الوقت نفسه تحارب الإرهاب، والتطرف، عبر حدودها، وداخل مدنها، وتقف بالمرصاد لكل محاولات كسر القانون، وغياب الدولة، والتدخل فى الشأنين المصرى والعربى لإعادة الاحتلال، و هزيمة الإنسان والدولة معا، وكلها حروب وجودية، لا غنى عنها، للاستمرار، وحماية حياة الناس، واستقرار أرزاقهم، ومعيشتهم، كما أنها قضايا كبرى، عنوانها وتفصيلاتها موضوعات مثيرة، تدور حولها حوارات لا تنتهى.
ولا يمنعنا هذا، ونحن نرى مواكب أهالينا الراحلين، ممَنْ قضوُاْ بالفيروس اللعين، أو غيره من الأمراض، أو بحكم السن، وانتهاء العمر، ومن يخافون المرض، والمستشفيات، والأطباء وهم يكافحون لوقف العدوى، والخوف على الأصحاء، الذى قد ينسينا المرضى، ومعاناتهم، والرفق بهم عامة، فالموت، أو الرحيل، فى زمن الوباء مخيف، لأنه قد يحرمنا من تكريمهم بما يكفى تاريخهم، وأدوارهم، وكلنا عشنا هذه اللحظات الدقيقة لقريب أوصديق، حيث اختفت، مؤقتا، مجالس التعزية، التى كانت تحمل معنى الوفاء، والمشاركة المجتمعية، والوجدانية، لأهاليهم، وحتى المستشفيات عجزت عن استقبال المرضى الكبار, لم يمنعنا كل هذا من أن يتملكنا الإصرار والرغبة فى اجتياز المحنة، وعبورها، واحترام أمهاتنا، وآبائنا، وأخوتنا الراحلين، وأن نقف إجلالا لمسيرتهم، وأن نتذكر الأعمال الجليلة، والتطور، للأجيال الحالية والقادمة.
لقد فقد بلدنا شخصيات، بشكل متتابع، لها بصمات كبيرة فى حياتنا، وبلادنا، وأعمال يجب تقديرها، لتكون نبراسا للقادمين، وإشارة إلى غِنى الوطن بالنوابغ، وأصحاب القدرات، وتقول إن الوطن لا ينسى، وقادر على رصد، وتسجيل تاريخ عظمائه، والنابغين من الكتاب، والفنانين.. وغيرهم.
إننا نقدر الشهداء ضباطا وجنودا، والأطباء والممرضين، ولكن لا ننسى من حملوا الرايات لتقدم الشعوب، و نوابغ المبدعين ، والكتاب، والسياسيين، و أهل الفن الجميل ، حيث يقف المصريون على أرضية صلبة، لأن أعدادهم كبيرة، ولا أستطيع أن أذكر الجميع، ولعلى أذكر النموذج المثالى، الذى يعبر عن الآخرين، فى مجال السياسة والعسكرية، فقد رحل ضابط كبير، له فى العسكرية.. باع طويل، وفى السياسة، أيضا، له دور بارز، صحيح أن عمره فيها كان قصيرا بعمر الزمن، لكنه خط فيها سجلا، أو فصلا عريضا، ناصعا ومفتوحا للآخرين، لكى يكملوا ويعمقوا نهجه، وأسلوبه، (أقصد اللواء محمد العصار)، الذى رُقى إلى رتبه الفريق قبل رحيله بأيام، وحمل وِشاح النيل، الذى استحقه عن جدارة لا توصف، لدرجة أن كل من سمع بالقرار وقف احتراما وسعادة لصاحبه، ولمصدره بالدرجة نفسها، وبصفاء وإجماع نادر، قلما يحدث أو يتكرر، وكأنهم كانوا ينتظرونه، لأن الفريق العصار لم يتوقف عطاؤه للعسكرية المصرية منذ تخرجه فى عام 1967، فالفريق العصار( 3 يونيو 1946- 6 يوليو 2020) لعب دور الإنسان القائد، الذى يُقاس عليه، وأدى أدوارا متعددة فى القوات المسلحة، بين الأفراد والمؤسسات والسياسات، خاصة فى إعادة التسليح والتصنيع، وامتلاك الأسلحة المتطورة، أما دوره السياسى، فإنه يُذكرّنى بسياسى آخر فى تاريخنا لعب الدور نفسه، والقدرة والكفاءة والاقتدار ذاتها، إنه الدكتور أسامة الباز (يوليو ١٩٣١- سبتمبر٢٠١٣)، المستشار السياسى لرئاسة الجمهورية مع السادات ومبارك، فلقد كان الفريق العصار عقلا سياسيا جبارا، وحكيما، وذا قدرة فائقة لحقبة ما بعد 2011 حتى رحيله 2020، أما الباز، فظل عقلا سياسيا لمصر 4 عقود متتابعة، ما بعد السلام، وبناء مصر، إلى يوم رحيله، وقد التقيت الفريق العصار كثيرا ما قبل 2011، ومرة واحدة قبل رحيله فى ندوة بـالأهرام، وقلت له: أنت تفكرنى بالدكتور الباز، فضحك، ولم يعلق, رحمه الله, إننى أُجزل للاثنين العطاء، فقد كانا من أصحاب العقول القوية، التى استفادت منها البلاد.
كما رحل الأسبوع الماضى كذلك زميل، من أجيال المبدعين المصريين ، أذكره بكثير من الاحترام للمهنة وللصحافة، إنه الكاتب الصحفى محمد على إبراهيم، رئيس تحرير جريدة الجمهورية فى الفترة بين 2005 و 2011، الذى رحل فجأة، وقد سطر فى عالم الصحافة سطورا مهمة، سواء فى الجمهورية أو الإيجيبشيان جازيت، وكان صحفيا ذا قلم مبدع، يكتب ما يحس، ويدرس بضمير وطنى مخلص، وذا رؤية وحِس مهنى راقٍ، فهو من جيلنا، ونحن كنا فى حاجة لاستمرار قلمه، وقلبه، والآن نودعه بكثير من الحب، ونتذكر من خلال رحيله أقلاما أبدعت فى عالم المهنة، والصحافة، والكتابة، وكان تأثيرها كبيرا على عقل الوطن، وظلت تحترم مهنة الكتابة، والصحافة، وتُعلى من شأن أبنائها، وتقدرهم، وتَضعهم فى المكان اللائق بهم، باعتبارهم من الأقلام التى تصنع عقل الوطن.
كما أختار من الفنانين الراحلين شخصيتين لهما تأثير على واقع الفن فى مصر؛ هما الفنانة الراحلة الجميلة المتمكنة رجاء الجداوى ، التى رحلت إثر إصابتها ب فيروس كورونا ، ورحيلها ذكرنا بنجوم مصر الراحلين جميعا، الذين عملوا معها أمثال فاتن حمامة وسعاد حسنى، حتى نجوم الغناء أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ونجم الشياكة والتعبير المميز محمود رضا، الفنان العبقرى الفذ، الذى أنشأ ما قبل الستينيات فرقة خاصة للفنون الشعبية جعلت الرقص فنا جماهيريا محببا لدى كل المصريين.
رحم الله قادتنا، وكل أبناء الوطن الخلاَّقين، الذين رحلوا، خاصة فى زمن كورونا، فقد دفعوا ثمنا إضافيا أكبر، فى أوقات الخوف والحظر، ورحلوا ولم نعطهم الكثير من حقوقهم، التى استحقوها علينا، أو نُوفى من عهدهم معنا.. وحفظ الله الوطن، وجدد شبابه بأبنائه المبدعين.