
أسامة سرايا
من رَحِم الأحداث يَبرز حدث تظل مؤثراته ومعانيه باقية، بل مستمرة، على مر الزمن.. الإثنين الماضى، آخر أغسطس 2020، التقى الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، جارة القمر (فيروز) فى بيتها، فى بداية زيارته بيروت، وهى الزيارة الثانية له فى أقل من شهر، والتى جاء إليها عقب حادث جلل هز العاصمة اللبنانية وتركها وكأنها خرجت توا من حرب كارثية ضخمة (ضحايا وخسائر)، أو ضُربت بقنبلة نووية.
لقد أرادت أوروبا، عبر فرنسا، أن تقول للبنانيين: “لن نترككم وحدكم”، وكانت معهم فعلا فى حشد المجتمع الدولى وراء لبنان الجميل، وفى تغيير الحكومة، وسرعة الاستجابة، وهى محاولات جادة لإنقاذ بلد عربى يتعرض لهزات سياسية ضخمة، كما يتعرض لمطامع إقليمية لم تنتهِ بعد، ومازال مطحونا بين قضايا أكبر منه، وشعبه يدفع ثمنا لا قبل له به، وباهظا، أو تكلفة لا يستطيع أن يتحملها أحد.
وقد سبق لى أن كتبت عن أحداث لبنان، ولكن لقاء أيقونة الغناء العربى من الأحداث التى تهز الوجدان، والمشاعر، والقلوب، معا، خاصة إذا جاءت مُوحية، تحمل فى طِياتها اعتراف الغرب، ممثلا فى رئيس فرنسا، بقدرة الصوت العربى أن يصل إلى القمة، وأن يتجاوز حاجز اللغة، وكأنه قال لها: “قد لا أفهم الكلمات، لكن صوتك موسيقى نفهمها بكل اللغات”.
إن صوت الشرق، نحن نقول، وصل للقمة، لكن الطلة الفيروزية قالت إن الأجيال المتتابعة من العرب مازالت تغنى الصوت الجميل، وتقول الشعر، وأعذب الكلمات، وموسيقاها تَخلب الألباب، وقد أكدت أن “ألف ليلة وليلة” ليست حدثا شرقيا فريدا، فقط، بل متكررا فى عالمنا العربى كل يوم، ففى كل الأزمان والعصور، تجد الجمال.
كما أن صوت فيروز، الذى جاب الآفاق، قال الكثير، لكننا لم نستطع أن نأخذه للغرب والشرق معا، ليكون أقوى، وهو فعلا أقوى، وأكثر تأثيرا، ممن اتهمونا بالإرهاب والتطرف، وأنه متأصل فينا، فكشف ادعاءهم، أو سطحيتهم، أو عنصريتهم، تجاهنا.
لقد قال صوت فيروز للجميع، خاصة الغرب، “نحن كنا، ومازلنا، أصدق منكم فى حبنا لهذا العالم والحياة”، ومن هنا، فإن رمزية الزيارة، وأبعادها الثقافية، والتى جاءت فى مئوية لبنان كوطن، قالت الكثير: “ربما نكون قد فشلنا فى بناء دولة، أو أكثر، حولنا، فى المنطقة العربية، وهناك أكثر من دولة تسقط، وتتدهور أحوالها، لكننا لم نفشل فى بناء أمة فخورة، ومعتزة، بتراثها، وثقافتها، وفنها، وباعتراف العالم من حولنا بها، فالأمة تسبق الدولة، والأمة تبنى الدولة إذا سقطت..
إن ابتسامة فيروز الساحرة والغامضة لم تخفِ إحساسها بالألم على مدينتها، وشعبها، وأهلها، ووطنها، وما يتعرض له، وبرغم غموضها، فقد أبانت، وأظهرت، وعبّرت عن قدرة الفن على البناء، وتجاوز الكوارث، والملمات، وقدرة الأشعار والموسيقى على جمع الوطن والناس حول الهدف، وإعادة البناء، وجعل المتطرفين والإرهابيين يهرعون إلى جحورهم خائبين، فاشلين، فهم الذين ألصقوا بنا ما ليس فينا.
لم تحرك ساحرة الشرق، أيقونة لبنان والعرب، مُخَيّلاتنا نحو الحب والجمال فقط، بل أحكمت قبضتها بأننا نملك ما هو أكثر، نملك تغيير الواقع، وهى لم تُشعل “النوستالجيا” الكامنة فى نفوسنا فقط، بل تحرك عقولنا، وتدفعنا إلى الأمام.
كما لم تذهب، أو تضيع ثورة فيروز فى الغناء والموسيقى، مثل ثورات غيرها، بل كانت أعمق، وأكثر تجذرا، فهى لم تقتنص لقب “المعجزة” من فراغ، مثل الثورات التى أخذت أشكالا وألوانا وضاعت، وكانت رسالتها حاضرة، فهى من غنت لباريس، وبيروت، والقدس، وقد كانت. قضايانا العربية والفلسطينية من خلالها حاضرة، ومعترفا بها، وتذهب فرنسا، أو أوروبا، إلى بيتها، وتجلس إليها، وتسمع منها.
إن وصية فيروز لعالمها سبقت السياسيين والنخب، لأنها حصلت، ليس على أصوات الجماهير فقط، ولكن على قلوبهم، وعقولهم، واحترامهم.
كما أن وصية فيروز لم تكن كلمات، بل حضور تجاوز الآفاق، لقد قالت فيروز إن العالم لا تستقيم أموره، ويستقر حاله دون استقرار الشرق الأوسط، كما قالت نحن فى وطن مازال يَحلُم، ويحب، ويطلب، ويطالب بلم الشمل، ويبحث عن أن يكون تحت شمس الحياة شريكا فى كل ما يحدث حوله، من بناء، وتطور، ونمو، وصناعة، وهزيمة للحروب، وتجار الموت، فى كل مكان..
إن صوت فيروز، أو ثورة فيروز، صورت لبنان واقعا حيا، متدفقا، يُغير العالم من حولنا، وكان نبض العالم العربى من حولها محركا لها.
لقد قالت فيروز للغرب، متجسدا فى شخص الرئيس الفرنسى،: ” وضعتونا فى فوهة الحروب والصراعات، لكننا نرى نهاية الحرب، وبرغم ظروفنا الصعبة، وحياتنا البائسة، فإننا لا نرى نهاية الوطن، بل نكسة عابرة، فكل من أشعلوا الحروب، وحركوا الفتن الطائفية سيُسقطون، وكل من وضعوا المسيحى أمام المسلم، والسنى أمام الشيعى سيفشلون، وتبوؤ أفكارهم السقيمة بالهزيمة، لأن الجميع سيكتشفون أنهم أبناء لأب وأم واحدة: آدم وحواء، كما أن مآلات الحروب الدينية، والفتن الطائفية لن تقتلنا، وسنعبر، ونقطة التماس بين الطوائف والأديان فى لبنان مازالت صامدة، وستتحطم عليها كل الأفكار، والصراعات، التى بُنيت بلا أساس من عقل، واستغلالا لحالات وظروف تفجر براكين الغضب، ولكن العقل سرعان ما يصححها، ويضعها فى مكانها الصحيح، لا ليقتل الإنسان أخاه الإنسان عبر فكرة أو دين، فالأديان لا تقتل، والعقل والإنسانية تجمعنا، والوطن لنا جميعا”..
إننى أوقن أن فن فيروز كافٍ ليحرك العقول، ويكشف قدرة الإنسان البسيط، والأسرة المتوسطة، أو الفقيرة، فقد جعل الله فى صوتها إبداعا يخلب الألباب، فهو الصوت العبقرى، ويجمع الشرق والغرب معا، بل يهزم الحروب والصراعات فينا، ويُحيى الأمل، والحب، والجمال، حولنا.
وأعتقد أن زيارة ماكرون لفيروز كانت فرصة لنقول لها: شكرا، مع حبنا لكِ يا جارة الوادى، يا بنت العرب، يا جارة القمر، فقد جعلتينا فخورين بأوطاننا، وعروبتنا، ولغتنا، وموسيقانا، والأهم بإنساننا البسيط الحى، والصابر، وتذكرنا معك كل عظمائنا والبنائين الكبار، فنحن نرى فيكِ كل من بنوا الوطن، وجعلوا لغتنا، وفننا، وموسيقانا إبداعا عالميا، لقد كنتِ وحدك بفنك، وعبقريتك، وشخصيتك الفريدة تعبرين عنا، وترفعين رءوسنا، وتصححين أخطاء حكامنا، بل مؤسساتنا، وتُعلين من شأن الإنسان العربى أمام العالم كله..