
مع قناعتى أن المشهد الأمريكى الراهن شىء يخص الأمريكيين وحدهم، وأنه من الضرورى أن تكون لنا نظرة تقييمية له، لأن الرئيس الأمريكى القادم مؤثر فى بعض الجوانب المهمة فى الكثير من السياسات العالمية، ولأن أمريكا هى الدولة العظمى والكبرى، ولقرارها، أيا كان، تأثيره المباشر على شارعها، وعالمها، سياسيا، واقتصاديا، بل ثقافيا. إلا أنه يجب علينا أن نثق أن فى مصر مؤسسات، ودولة قوية، وقادرة، لها خبرة عتيدة، بل متميزة، فى التعامل مع الأمريكيين، ومؤسساتهم المختلفة، وأننا نتعامل، منذ سنوات، مع الجمهوريين والديمقراطيين، على قدم المساواة، ونعرف مميزات ومساوئ كل منهما، بل لنا تعاملات وقدرة على المعرفة بأساليب عمل مراكز القرار فى الكونجرس الأمريكى، ورصد التباين مع المؤسسات المختلفة، سواء كانت خارجية أو أمنية، مثل الدفاع، والبنتاجون، ووزارة الخارجية، بل كذلك المؤسسات التعليمية، والقضائية، والاقتصادية، سواء كانت الأمريكية منها أو الدولية التابعة لها، وأنه لا فرق عندنا، على الإطلاق، بين أى رئيس ينتخبه الشعب الأمريكى، ولا تأثير له على علاقاتنا معهم، بل نكاد لا يكون لنا رئيس مفضل، وهذا عن خبرة بالسياسة المصرية من الداخل عبر السنوات الماضية.
إننى أتذكر منذ سنوات، خلال فترة انتخاب الرئيس أوباما، كنت أفضل خصمه، لمعرفتى أنه إن اُنتخب أوباما فسيكون رئيسا قادما من الأقليات، وقد ندفع نحن ثمن ذلك كثيرا فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى، لأنه ستكون له تحيزات مضادة لنا لكى يستمر، ويُظهر حياده على حسابنا، ولا يُثير حوله شبهات أو قلاقل من الأغلبية، قد تؤدى إلى عدم استكمال مدته، كما حدث من قبل، وقد ثَبُت لى بعد ذلك أن هذا الاجتهاد كان صحيحا تماما، وأن إدارة أوباما تدخلت فى الشئون الداخلية لنا، ولمعظم دول الشرق الأوسط، تحت تأثير أن التيارات الدينية، كماركة سياسية تجارية، مغبونة فى مجتمعاتنا، وأنها صاحبة الأغلبية إذا أُجريت أى انتخابات، وكان هذا الرأى عبارة عن اجتهاد لمراكز بحثية ثَبت بعد ذلك أن كانت لها تحيزات معيبة، وغير علمية، ولا تَنم عن ثقة من قبل هذه الجماعات نفسها، حتى يبرز هذا الرأى، بل كانت مدفوعة الأجر، وموجهة لغرض التأثير على القرار السياسى الأمريكى أو الغربى عموما، عند التعامل مع دول الشرق الأوسط إبان الاضطرابات السياسية، ولكن مصر تجاوزت تلك الفترة الحساسة فى تاريخها، بل استطاعت شرحه للقاصى والدانى معا، حيث تهاوت هذه الفكرة، وأن الأغلبية فى مجتمعاتنا تتجه إلى نبذ التعصب، والسير نحو التحديث دون أن يجعلوا لأصحاب هذه التيارات المتخاصمة مع العصر تأثيرا على مسار حياتهم، ومستقبل مجتمعاتهم، بل إن هذه الجماعات الدينية ما هى إلا وجهات سياسية للتيارات المتطرفة..
الانتخابات الأمريكية، بمثابة كرنفال نقيس من خلالها نبض الأمريكيين، وأسلوب تعاملهم مع مجتمعهم، وآرائه كل 4 سنوات، هذه الانتخابات، التى تُجرى أوائل الشهر المقبل، رقم 59 فى التاريخ الأمريكى، والرئيس القادم إذا فاز ترامب فإنه سيظل الرئيس رقم 45، وإذا فاز بايدن فسيكون الرئيس السادس والأربعين.
إن المنافسة بين الحزبين الكبيرين (الجمهورى والديمقراطى)، المسيطرين على العقل الأمريكى، رغم أنها وصلت إلى درجة تنافسية عالية، فلست مع القائلين إنها انتخابات مصيرية، أو أنه يصاحبها تغيير جذرى فى السياسات الأمريكية، لأن الحزبين الكبيرين أصحاب القرار فى السياسة الأمريكية، وبقرار تأميم هذه الانتخابات لن يكون هناك رئيس جديد، بمعنى أن التغيير يتحمل مسئوليته المجتمع بالشكل الذى يتصوره بعض المحللين، ويطلبونه عنوانا لانتخابات 2020..إنها انتخابات على وتيرة سخونة الانتخابات الأمريكية المعتادة، ولا تنتظروا سياسات أمريكية جديدة بالمعنى المفهوم للكلمة، لأنه حتى الرئيس ترامب، رجل الأعمال المثير للجدل، قد يتغير تماما، وستجدونه ترامب آخر لا يكون مثيرا للجدل، وسيكون طيِّعا فى دورته المقبلة، بل مختلفا فى الشكل، ويتناسب مع المضمون، لأن المؤسسات الأمريكية قد تكفلت بتدريبه فى السنوات الماضية بما يتناسب مع وتيرته، وتفكيرها فى القرار الأمريكى، وأنه لن يخرج عليها كثيرا، كما حدث فى دورته الأولى، سواء فى سياسته مع إيران، أو الصين، أو روسيا، بل قد يقترب كثيرا من رؤى الحزب الديمقراطى فى بعض القضايا الداخلية، كما أن بايدن، وهو الأقرب الآن إلى الانتخاب، لأن المزاج الأمريكى يتغير، قد شُفىَ تدريجيا من بعض الاضطرابات، التى انتابته تجاه الأقليات، كما ثبت أن أزمة كورونا والاضطرابات العنصرية، التى شملت معظم الولايات المتحدة الأمريكية، فرضت على المتنافسين أن يتعاونا معا. أمريكا، كما تعودنا عليها، عند الأزمات الكبرى تتحد، ولم يسبق أن واجه رئيس جديد، أو مُعادُ انتخابه، الكثير من الأزمات فى وقت واحد، كما يحدث الآن،. وثقوا أن حالة العداوة الراهنة بين الحزبين، التى ظهرت فى المناظرة بشكل حاد، قد تتغير بعد الانتخابات، لأن مراحل الخطر والأزمات المركبة تفرض هذا التغيير والاتحاد، وقد نستشعر أن أمريكا فى خطر، وتلك حقيقة، إلا أنها تحاول أن تتكيف لتظل القوة العظمى السياسية، والعسكرية الأولى، من جديد مع المتغيرات الاقتصادية فى العالم، لتظل، أيضا، القوة الاقتصادية العالمية الأولى والاجتماعية فى الداخل، بل الثقافية، فى مختلف دول العالم، وأنه فى هذه الحالة لا حل لها لإنقاذ مكانتها إلا تعاون الإدارتين (الجمهورية والديمقراطية) أيا كان الرئيس المنتخب، وعلى الجميع، خاصة فى الشرق الأوسط، إعادة تدوير سياستهم فى هذا الإطار، وأخيرا، فإن ما دفعنى للكتابة عن الانتخابات الأمريكية أنه صعب أن تكون جزءا من هذا العالم ولا تهتم بأهم مباراة سياسية تحدث فى عالمنا، وتحت أنظار إعلام لا يرحم، رغم إدراك أنها عملية تحصيل حاصل، بالنسبة لنا، على الأقل فى مصر والشرق الأوسط عموما.