مقالاتمقالات الأهرام اليومى

عالم ما بعد ترامب..!

عندما تضع الحرب الانتخابية فى أمريكا أوزارها، بعد معركة شغلت العالم كله، ثم أعقبتها مشاحنات قضائية للفصل بين المتعاركين، أثبتت فيها الولايات، كبيرها وصغيرها، قوة مركزها، وتأثيرها على القرار، والانتخاب، وسيطرتها على كل الضغوط عليها، سيكون الرئيس الخامس والأربعون ( دونالد ترامب ) قد اقتنع وحزم حقائبه، لأنه قد حان أوان الرحيل، لكنه بالقطع لن يكون تعيسا، فقد استطاع فى 4 سنوات أن يغير حزبه الجمهورى، ويضعه فى مسار جديد، وأعطى لـ الترامبية فى كل أمريكا زخما، بل فرض وجودها على الشارع والمؤسسات، وأزاح من أمامها الأوبامية، التى لم تستطع أن تبقى، رغم أن صاحبها قد حصل على دورتين رئاسيتين مع بزوغ العصر الترامبى، ولا يتوقع أحد أن يعيدها الرئيس الجديد (بايدن- نائب أوباما)، ليس لأنه غير راغب فقط، بل لأنه لا يستطيع كذلك، لكنه قد يحاول المزج بينهما لإخراج متوسط حسابى جديد- إذا استطاع.

إن كل شىء قد تغير فى أمريكا 2020، ليس بسبب كوفيد- 19 فقط، ولكن لأسباب كثيرة قديمة وجديدة معا، وأعتقد أن أمريكا الجديدة تبحث عن هوية، بل تبحث عن الحلفاء، والأصدقاء التقليديين، أو حلفاء أمريكا بعد الحربين العالميتين، الذين تغيروا ولم يصبحوا فى المكان المتعارف عليه، فإذا كان الأوروبيون الأقرب للأمريكان قد شعروا بالخوف من تقلبات ترامب، فيجب أن يزداد خوفهم فى المستقبل، لأن عليهم أن يُعيدوا صياغة أوضاعهم مع الدول الكبرى، وكذلك الروس، والصينيون، وأعتقد أن الاثنين الأخيرين هما أكثر القوى، التى تعرف أمريكا الجديدة ، لأن كليهما تأثيره أعمق عليها، بل إن لهما وجودا، وتأثيرا على مستقبل أمريكا.

إن أمريكا الجديدة ليست فى حالة ضعف، كما يتصور الكثيرون، بل تخرج من الحقبة «الترامبية» فى حالة قوة العاصفة الشعبوية، التى اجتاحت أمريكا، إذا واجهتها أى قوى أخرى فى عالمنا، كانت ستُفكك وتَضعف بل تنهار، لكن أمريكا خرجت، ولا أستطيع أن أقول قوية، بل منهكة، لكنها تستطيع أن تتجاوز هذه الحالة فى سنوات قليلة، ليس لقوة الرئيس أو المؤسسات، ولكن لقوة الولايات نفسها، التى استطاعت أن يكون تعبيرها أقوى، وسيطرتها على القرار أعمق.

بل إن الشارع الأمريكى عموما قد أرسل للحزبين الكبيرين (الجمهورى والديمقراطى) رسالة جديدة، أنهما كان يجب أن يتغيرا، أو أن يكون تمثيلهما، سواء الرئاسى، أو الكونجرس، أو حكام الولايات، مختلفا، وإلا ستظهر قوى جديدة فى الشارع، أو حزب ثالث، فظهور تيارات جديدة من أجيال مختلفة أصبح ضرورة، وشبكة إنقاذ لمستقبل الحزبين الكبيرين، أما نحن فى الشرق الأوسط فيجب أن نتغير كذلك، لكى نتكيف مع المتغيرات العالمية، وألا تصبح علاقتنا بالأمريكيين مقصورة على حل المشكلات الداخلية فى منطقتنا فقط، لأنهم لم يعودوا مستعدين لأن يدفعوا فيها الكثير، حتى من الوقت، ولم يعودوا فى حاجة إلى الطاقة، و لم تعد إسرائيل فى حاجة إلى الدعم الأمريكى ، فقد أصبحت جزءا من الشرق الأوسط، ولها علاقات مع معظم، بل أهم دول المنطقة، وأصبح أمامنا استخدام الأمريكيين، ومؤسساتهم المختلفة، خاصة خلال السنوات الأربع المقبلة، لمحاولة حل المشكلة الفلسطينية ، وهذا لن يتأتى دون الفلسطينيين أنفسهم، وتنظيم صفوفهم فى كيان واحد يَعرف ما يريد، ويتجه للتفاوض بلا خوف، وهذا ليس طموحا، بل الأهم أن يعرف إمكاناته، وقدرته على التعايش فى هذه المنطقة الصعبة، سواء مع الإسرائيليين أو العرب.

أما الإيرانيون فهم أكثر من يحتاجون الأمريكيين، لعدم ترك القرار للإسرائيليين، الذين سوف يتجهون إلى الحرب فى حال إصرار إيران على التسلح النووى، وهناك فرصة مع إيران أن تتجه إلى التعايش مع جيرانها على أساس احترام السيادة لكل دول المنطقة، وعدم التدخل فى شئونها، بدلا من ترك هذه القضية الحساسة، والمعقدة، لتكون نقطة تغيير شامل فى كل الشرق الأوسط، الذى لن يكون لحساب الاستقرار، بل سيفتح أمام كل دول المنطقة الحروب بلا توقف، فهل يستطيع الإيرانيون قراءة الصورة الجديدة؟!..

أعتقد أنه صعب على الجناح المتطرف فى إيران أن يقرأ ما يحدث فى أمريكا، وأن الاتفاق النووى الجديد ستكون أطرافه فى المرحلة المقبلة من الدول العربية وإسرائيل، وكلا الطرفين لن يقبلا إيران النووية، أو يسمحا بتدخل إيران فى الشئون الداخلية للدول العربية، والسنوات الأربع المقبلة ستتجمد فيها القضايا الكبرى، حتى يتعود العالم على حل مشكلته بنفسه، أو بمشاركة كل القوى فى عالمنا.

إن أمريكا الجديدة لم تعد مستعدة للانخراط فى مشكلات العالم لتحلها، بل ستتركه يعانى كثيرا، ووقتها سيعرف الكثيرون أن الدور الأمريكى لم يكن كله شرا، بل إن الروس، والصينيين، والهنود، والأوروبيين، سيكونون جميعا من يسعون إلى هذا الدور، وأعتقد أن القضايا العربية، التى بلا حل، ستكون هى الأكثر تضررا من عالم لم تنخرط فيه أمريكا بالشكل الأكبر لحل مشكلاته، وأن الدول العربية الأكبر، خاصة السعودية، ومصر، والإمارات، فى حالة استمرار تحالفها وتعاونها معا، ستكون أكثر قدرة على التأثير فى القرار الأمريكى، بل ستكون، على وجه التحديد، أكثر انسجاما مع رئاسة بايدن مما ستكون عليه لو كانت هناك ولاية ثانية لترامب، لكن ذلك يستدعى تحركا من مؤسسات عديدة لإزالة أى لبس قد يكون لدى بعض دوائر اتخاذ القرار فى الإدارة الجديدة، خاصة مراكز المعلومات والتفكير، التى مازالت عقولها منهمكة فى مرحلة ما قبل ترامب، والعمل مع أوباما، خاصة فى التحالفات التى تمت مع تيار الإسلام السياسى، وجماعات الإخوان المتأسلمين بشكل عام، لشرح تأثيرها العميق على أيديولوجية التيارات المتطرفة، التى ظهرت فى المنطقة، كالدواعش، والقاعدة، التى اشتقت أيديولوجياتها من الجماعة الأم (الإخوان المسلمين)، كما أن الدول الكبرى العربية فى حاجة إلى مسارعة زيادة تحالفاتها مع الجماعات الأوروبية، والمؤسسات الدولية، لزيادة شرح التطورات الداخلية فى بلادنا، لعدم ترك مساحة الحركة لجماعات خارجية تمرست على الحركة فى الدوائر الغربية، والأمريكية عموما، للتأثير فى قرارها، وسياستها تجاه منطقتنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى