
أسامة سرايا
لم ينقصنا اغتيال فخرى زادة لنعلم حقيقة الاغتيالات، وقتل الدول. لم يكن أحد فى منطقتنا يعرف فخرى زادة: هل هو عسكرى أم عالم نووى؟.. هل هو فعلا “أبوالمرشد للقنبلة النووية” المزعومة لإيران، أم هو المسئول عن الصواريخ الإيرانية، أم أنه الاثنان معا؟..
إنه حلقة مفقودة غير معلنة، وقد كان اغتياله قبل نهاية هذا العام (2020) سينمائيا، مثل حلقات جيمس بوند، أو المخابرات، لقتله فى قلب طهران، فقد صفوا الرجل، وهربوا جميعا، وعددهم يقترب من مائة، وقد جاءت لحظة اغتياله ونحن ننتظر تحركا أمريكيا، أو إسرائيليا، ضد إيران، وفى خِضم الاستعداد لاستقبال الحرس الجديد، أو الديمقراطيين، بزعامة الرئيس بايدن فى العاصمة واشنطن، والتعرف على سياساته مع إيران فى البرنامج النووى، والصواريخ، وعلاقاتهم بالمنطقة العربية..
لا أعرف، لحظة هذا الحدث، هل ربط الجميع بين اغتيال مماثل حدث فى بغداد للعسكرى الإيرانى البارع قاسم سليمانى، المسئول عن معارك كثيرة، بل الذى فرض سيطرته على الشيعة العرب فى المنطقة العربية، سواء فى لبنان، أو العراق، أو اليمن، أو سوريا، وتوظيفهم لتحقيق المصالح الإيرانية، وسيطرتها الإقليمية، ولكن أعتقد أننا يجب أن نربط ذلك مباشرة مع حادث إعدام صدام حسين، رابع رئيس للعراق (1937-2006)، والذى تولى منصبه عام 1979، ثم اختفى عقب دخول الأمريكيين بغداد، ثم ألقوا القبض عليه فى عملية مسرحية هزيلة فى ديسمبر 2003، ثم أُعدم شنقا بعد محاكمة سريعة لا تتناسب مع مكانة رئيس، وجرى تنفيذ الإعدام فى 30 ديسمبر 2006 بشكل مفاجئ لكل شعوب المنطقة العربية، وكأنهم جميعا كانوا خائفين من رئيس تحت الأسر، وتركته الحكومتان الأمريكية والعراقية لميليشيات إيرانية لكى تنتقم منه لحربه الطويلة ضد طهران فى عشرية سوداء للمنطقة العربية كلها.
وقد توالى بعد ذلك حدوث الاغتيالات بعد الإعدامات، فقد شهدنا الرئيس القذافى (1942- 2011) يُعدم فى الطريق العام بعد 42 عاما فى الحكم، ومن يومها لم تستقر ليبيا، وهناك صراع حولها، وشهدنا كذلك اغتيال الرئيس على عبدالله صالح فى اليمن، فى عملية عسكرية قام بها الحوثيون، الذين يقاتلون بدعم وتسليح إيرانى منذ عدة سنوات.
لقد أصبحت الاغتيالات فى منطقتنا حالة مستمرة بين الزعماء والسياسيين، وكذلك نتذكر ما حدث فى لبنان وهو مقتل رئيس الوزراء السنى رفيق الحريرى، الذى ارتبط اسمه بإعادة لبنان بعد الحرب الأهلية الطويلة، وإعمارها، وظل الرجل القوى الذى نسج فى المنطقة شبكة علاقات قوية دولية، ووظفها لمصلحة بلده، وكان الانفجار المُدوى فى وسط بيروت، التى قام بتعميرها، بمثابة رسالة من دول إقليمية، متحكمة فى مفاصل لبنان؛ أننا ضد عودة هذا البلد ليعلن أى دور، سواء لشعبه أو المنطقة، وأنه بلد مرهون لمصالح إقليمية عليا تخص من اغتال، ومن خطط، ومن نهج هذا المسار.
وهكذا شهدنا اغتيالات كبرى لزعماء سياسيين أعقبتها سيطرة على هذه البلاد، وإبعادها عن أى دور لمصلحة شعوبها، أو المنطقة، سواء فى لبنان، أو اليمن، أو العراق، أو فى سوريا، التى ما حدث بها هو أكثر من اغتيال، فهى الحرب المدوية، التى يشترك فيها أطراف عديدون رافقت عمليات الاغتيال، وسقوط الضحايا، والأخطر سقوط الدول، وظللنا نبحث عن الجانى هنا، والمتهم هناك، ونسينا أنه فى حالات الحروب الجديدة، أو المستجدة، فإن الاغتيالات المتبادلة هى عملية رسائل سياسية بين الأطراف المتحاربة، حيث إن كل طرف يختبر مناعة الآخر، وقدرته على الرد، أو قدرته على تلافى الأثر السلبى للاغتيالات، وكانت حقائق المنطقة وظروف الشعوب تضيع وسط البحث عن الجانى أو الرد على الجريمة، وظلت شعوب منطقتنا العربية ترزح تحت نير السيطرة الأجنبية، والتدخلات الخارجية، والاغتيالات، وظلت اللعبة الدائرة، والحلقة الجهنمية لا تكشف عن كل أبعادها، وما وراء الجرائم، وكيف ستنتهى تلك الحلقة الصعبة، التى قاربت على العقدين من الزمان.
نحن لم تكن تنقصنا الحلقة الأخيرة (اغتيال فخرى زادة)، الرجل الغامض الذى عرفته أمريكا وإسرائيل قبل إيران والمنطقة العربية، وقالوا لنا تذكروا، وشاهدوا، وكأنهم كانوا يخططون لهذه العملية المخابراتية الدقيقة للغاية، وكأنها رسالة متكررة، فمن تعامل مع هذه الجريمة لم يفرق بين عالم نووى يعمل لإنتاج قنبلة نووية يرفضها العالم، وترفضها المنطقة الباحثة عن أن تكون خالية من السلاح النووى، ومن منطقة بوشهر فى إيران، التى لا تألو حكوماتها جهدا، منذ قيامها 1979، عن التدخل فى الشئون العربية، بل بلغت حدا أن تقول إنها تسيطر على 4 عواصم عربية، وفى طريقها لالتهام المزيد، ولن تتوقف، والأخطر أن حالة إيران، وتدخلاتها، انتقلت إلى تيارات الإسلام السياسى المسيطرة فى تركيا، وأصبحت ملهمة لها، ولسياستها الإقليمية، التى اعتمدتها أنقرة، سواء فى شرق المتوسط، أو ليبيا، أو قطر.
إننا إذا كنا ننتظر نريد إيقاف هذه الاغتيالات، وسقوط تلك الدول، فإن الحل يجب أن يكون جماعيا، لأن هناك ارتباطا بين هذه الحروب الدائرة الآن على كل الجبهات فى المنطقة العربية، المفتوحة مسارحها وبلادها على ويلات تلك الحروب، والتدخلات الخطيرة فى شئونها، فهناك فى ليبيا ميليشيات تركيا والمتأسلمين، الذين جندتهم أنقرة للقتال لمصلحتها، ولتقسيم ليبيا، وهناك فى اليمن تقسيم مُقيت لذلك البلد بعد مقتل على عبدالله صالح على يد الإخوان المسلمين وجماعة الحوثيين، وها هى الحرب دائرة هناك على كل المسارح، والموتى يوميا، ولا يعرف كل طرف كيف تتوقف هذه الحرب، وما نصيبه من نتيجتها، بل إنها ليس لها نتيجة إلا قتل اليمن، وتعويق حياة الناس، كما أن سوريا مرهونة بيد أطراف عديدة، ولبنان بلا حكومة ينتظر الحل قادما من واشنطن، بينما فرنسا تحاول التحييد فى إيران، انتظارا لحل مشكلتها المزمنة.
أعتقد أن من اخترع الاغتيالات اكتشف أنها الحل السهل، لعل هناك، أو هنا، من يستيقظ ويبحث عن الحل الحقيقى، ونحن مازلنا نعرف أن هذه الاغتيالات جريمة يجب أن تتوقف، وأنها ليست حلا، فمن يفتح باب الاغتيالات يجب أن يدرك أنه ستطوله الفوضى والحروب، التى عندما تبدأ لا تفرق بين من تأكله، لأنها تأكل الجميع، بلا تفرقة بين دولة عظمى أو إقليمية، وبين رئيس سابق أو عالم نووى أو مواطن عادى، فهى أحد أبواب الجحيم التى يجب أن تتوقف.