مقالاتمقالات الأهرام اليومى

‏خواطر رمضانية فى زمن “كورونا”

أسامة سرايا
الشهر الكريم هلَّ بجماله، وروعته، وعطاياه.. كل عام أنتم جميعا بخير.. شهر رمضان له سمْتُ خاص فى كل العالم الإسلامى، يتغير فيه الإنسان، ليس فى عادات الأكل، والشرب، والعبادات فقط، ولكن فى السلوكيات، وعبر الروح الإنسانية ككل، حيث نسعى، خلاله، للكمال شكلا ومضمونا، ولا نصل إليه، ولكن يكفينا الاقتراب من الاستمرارية، وهذا هو سره الساحر والبديع.
وفى مصر، على الخصوص، فإن الحدث الرمضانى يختلف فيها تماما عن كل الدول الأخرى، لأنه عندما يَهل الشهر الكريم، ‏يشعر المصرى عامة بأن القاهرة هى عاصمة الحدث، وأنه ملكها، فيسعى كل إنسان على أرضها (مسلم ومسيحى) إلى أن يحتفل، ويكرم وفدته، مما يجعلنا مبدعين فى إكرام الشهر، الذى يكرمنا، فأصبحت له طقوس وعادات تعيش فى الذاكرة، وعبر السنين أصبحت، بتكرارها وجمالياتها، صانعة للعقل والوجدان، حيث يحبه الاقتصاديون، وأهل السوق، لأن رمضان، عبر التاريخ، هو صانع الأسواق، وخلاله تنمو الحرف والصناعات المختلفة، خاصة فى مصر، والتى تنتقل منها إلى بقية دول العالم الإسلامى.
لقد اعتدنا خلال رمضان على طقوس عديدة، منها إضاءة المدن والقرى، وفيه، كذلك، “خرجة” الفوانيس، والمشاعل، والشموع، كما عرفنا، خلاله، الألوان، وأحببنا الجمال، كما يتجمع الناس فى رمضان، خلال السهرات والليالى الدينية، ليعيدوا مودتهم، وحيويتهم الاجتماعية والوجدانية معا.
إن جمال “رمضان”، وقدرة “القاهرة” الفريدة، عبر الأزمان، على الصناعة، خاصة التى تشغل العقل والوجدان، اختبرها الإنسان مؤخرا، عندما أشعلت مصر العالم، وشغلته، بحدثها الفريد (انتقال مومياوات الحضارة المصرية القديمة من متحف التحرير إلى متحف الحضارة فى عاصمته الأخيرة الفسطاط)، مما جعل العالم يتساءل: كيف وصل هؤلاء المصريون- الذين نفذوا هذا الاحتفال فى إحدى مدن إفريقيا، أو العالم الثالث، وليس فى أوروبا، وأمريكا، أو هوليوود، أو “كان”- إلى هذا الكمال، الذى جعلهم، وموسيقاهم، وخطواتهم، يتفوقون، ويجذبون وجدان الشرقى والغربى معا؟!
إننى كنت أستغرب من الذين يتقولون عن “الهوية”، وأن المصريين بهذا الحفل عرفوا هويتهم، لأننا لسنا فى أزمة هوية، أو البحث عنها، فالإنسان البسيط على أرض مصر، الذى رفض الحكم المتطرف، وقاوم الإرهاب، والتدخل الخارجى، يعرف هويته، التى تتأسس، فى كل الأزمنة والظروف، على اللغة، والأرض، والدين، والعيش المشترك، ‏وطبقات من الحضارات المتنوعة، بل إن كل الحضارات الإنسانية، التى عرفها عالمنا، جميعها مرت علينا أولا، وكنا أول درس فى التاريخ، بل الأمة التى صنعت لبقية الأمم حضاراتها.
أعتقد أن رمضان ٢٠٢١ له سمْتُ مختلف، ليس لأنه يجىء فى ظروف خاصة، أو دقيقة، تمر بها الحياة الإنسانية ككل، (العام الثانى لجائحة، أو زمن، “كورونا”)، ذلك الوباء الذى هزَ العالم من حولنا- بل لأننا نأخذ من قِيم رمضان وإيجابياته ما يُقوى مجتمعاتنا على مواجهة الأوبئة والأمراض، وإذا كانت عاداتنا وسلوكياتنا قد تغيرت فى رمضان، شهر الإمتاع، بل شهر‏ التجمع، والصلوات الجماعية (التراويح)، التى شكلت وجدان هذا الشهر، وشهر التعبد الجماعى، والزيارات العائلية، وموائد الرحمن- فإن ذلك بسبب الإجراءات الاحترازية، والخوف من تفشى “الوباء”، ذلك أننا فى هذا العام الثانى الاستثنائى للجائحة، وكل التحذيرات تخاطبنا أننا مقبلون على موجة جديدة، يجب أن نتوخى خلالها كامل الحذر، حتى نجتازها، كما اجتزنا أكثر من موجتين من “الوباء” منذ العام الماضى وحتى الآن، ويجب أن نستكمل مسارنا فى تحجيم هذا الوباء لتقليل ‏خسائره، وزيادة قدرة المؤسسة الصحية المصرية على تلجيم وترويض هذا المرض اللعين، الذى يستهدف الجهاز التنفسى، والذى جعلنا نفقد، بشكل مفاجئ، الكثير من الأهل، والأصدقاء، والأحباء، خلال العام المنقضى.
يأتى شهر رمضان، هذا العام، لإعادة بعثْ قيم جديدة تتسم بروح العصر، فهو فرصتنا لإعادة إحياء قيم التسامح، والمحبة، والسلام، ونبذ العنف، والتطرف، والحروب، لأنها قيم الإسلام الحقيقية، التى نحتاجها فى رمضان، وفى كل يوم، لتزيل القتامة التى ظللت ‏وجه المتطرفين، والدواعش، والجماعات المتأسلمة، التى صّعبت الحياة على شعوبها، وجعلت لغة العنف والإرهاب سائدة فى مجتمعاتنا، بل جعلت شعوب العالم تغير سلوكياتها، وتعاونها معنا، كرد فعل سلبى لما أشاعته هذه الجماعات فى عالمنا المعاصر.
كما أن رمضان فرصة لنعيد الأوجه الجميلة والسمحة للعالم الإسلامى، ولمدننا، ولحياتنا، ذلك أننا جزء لا يتجزأ من استقرار العالم، ونبحث عن المحبة والتعاون مع الجميع، بحب، وحكمة، ورؤية تغير كل‏ الآثار السلبية، التى شهدناها فى سنوات نمو الدواعش، والقاعدة، والإخوان.. وغيرهم من المتأسلمين الذين أضروا بسمعتنا، وسماحتنا فى كل الأوساط (شرقا وغربا).. فرصة لنشر المسلمين، ثقافتهم “القديمة- الجديدة” المتسامحة، فى ربوع العالمين.. فرصة أن نقدم قيم هذا الشهر الكريم، وقيمنا الأخلاقية، التى هى قيم عالمية.. فرصة أن نهتم بالآخرين وهمومهم، وأحوالهم، واقتصادهم، ومساعدتهم.. فرصة فى عالم “الجائحة” أن يكون تركيزنا على إنسانية المسلمين، وسماحة دينهم، وأنه يَخلقُ منهم الإنسان الروحانى وليس الشهوانى.. الإنسان القلبى المعنوى وليس المادى.. الإنسان المتفائل المحب لحياته وحياة الآخرين.. الإنسان الذى يحمل فى قلبه مواطن السعادة للآخرين، مثل نفسه تماما.. الإنسان الباحث في حياته ودنياه عن آخرته، الإنسان الذى يسعى لكى يرتوى من خزينة المحبة فى دينه وثقافته.. الإنسان الذى يرتوى بهَدى الإيمان ليصنع منه محبة الحياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى