
أسامة سرايا
ذهبت إلى مسجد القوات المسلحة بمدينة نصر لصلاة الجمعة الأولى فى رمضان ٢٠٢١، ووداع الأستاذ مكرم محمد أحمد، الصحفى و”الأهرامى” العتيد، ونقيب الصحفيين، الذى رحل عن عالمنا بعد أن كتب أطول صفحة فى تاريخ مهنتنا (الصحافة)، ما يَقرب من ٧عقود متتالية حتى اليوم الأخير، كتبها بدمه، وإخلاصه، وتفانيه، قبل قلمه المميز، وأسلوبه العميق، والرصين، لكنه مُبين، وواضح، لا لبس فيه، وليس هناك من هو أقوى منه فى محبته، وتفانيه، وتماسك قصته، بل جمالها المهنى، المعروف عنه، وأدائه، سواء كتب بنفسه، أو وجه فريقه فى أى ديسك للتحرير، أداره، وأشرف عليه، خلال سنوات عمله الطويلة، أو إدارة صحيفته، أو مجلته، فهو الصحفى الشامل، ورئيس التحرير، والإدارى، الذى لا تستطيع أن تغرد بعيدا عن فرقته، فهو “مايسترو” يفرض عليك طوعا أن تكون ضمن فريقه، أو معزوفته، فمادمت ملتزما بالقيم المهنية، ومحبة الوطن، ومنتميا لمصريتك، لا تستطيع منه فكاكا، حتى لو كنت رافضا، لأنه، ببساطة، يوجهك لما تريد، حتى لو كنت لا تعرف، لأنه كان يعرف دائما ما يفعل، وما يريد، وما يكتب، إنه ظاهرة مهنية فريدة، وفجأة، وسط الحزن على الرحيل، وجدت الأستاذ مكرم يبتسم، وكانت ابتسامته عزيزة، لأنه صحفى ورئيس يبحث عن الكمال، وهذا صعب التحقق، فتجده متبرما، رغم أن الذين يعرفونه جيدا يدركون أنه عكس ما يبدو تماما، فشخصية المعلم تسبقه، وتفرض نفسها على الأداء، خاصة من ناحية الشكل فى التوجيه، فقلت تبسم النبى صلى الله عليه وسلم يوم الرحيل، لأنه أحس بأن دعوته تجذرت، وأدرك حُسن الخاتمة،.
ويبدو أن الأستاذ مطمئن، فقد رحل فى شهر كريم، وكان وداعه فى يوم أكرم، وهذا يعنى حُسن الخاتمة، ودرجة من درجات القبول، رحل ومصر العزيزة، صحيح، تعيش مرحلة دقيقة، لكنها متحدة، وقوية، وتعرف طريقها، وهذا كان أقصى طموحات مكرم محمد أحمد، وكأن صيحته المُدوية فى سنوات مصر الصعبة، فى أحد المؤتمرات (إلا مصر.. إلا مصر) تحققت، وأصبحت علامة قوية، ورسالة ذات معنى، ومغزى، لا تسقط بالتقادم، لكنها عابرة للأجيال، وتتجدد مع الأيام.
رحل الأستاذ وهو يعمل، وشغل فى آخر أيام حياته أهم موقع صحفى وإعلامى فى مصر، رغم أنه الصحفى الذى حاربته قوى الإرهاب والتطرف باستمرار، على مدى تاريخه المهنى، وترصدته فى كل مراحل حياته المهنية بالاغتيال المادى والمعنوى، لأنها كانت تخاف من تأثير كلمته، وقلمه، ورأيه، وقوة منطقه، فانتصر عليهم بعلمه، وإخلاصه، وفكره، ووطنيته، وهى تملك كل شىء: المال، والسلطة، والتأثير، بل استغلال الدين، وهو لا يملك إلا رأيه، وقلمه، ووقف كبيرها، وهو على رأس السلطة، لكى يُسفه الأستاذ، فوقع، وانتصر الفكر والقلم، وحاور المتطرفين، بل فرض عليهم المراجعات الفكرية، وكشف تربصهم، وأعطى لوطنه روشتة، للخروج من مستنقع التطرف والإرهاب، ستعيش للأجيال شاهدة على قوة القلم وسطوته.
شارك الأستاذ مكرم برأيه فى كل القضايا المصرية، والعربية، والمعاصرة، ورأيه مسطور، وشاهد، منذ الستينيات حتى اليوم، على قوة الصحافة، وتأثيرها فى مجرى الأحداث، ومن المؤكد عندما تريد الأجيال الحالية والقادمة معرفة ماذا حدث فى مصر والمنطقة العربية؟.. ستكون كتاباته مرجعية مهمة، بل تاريخا واقعيا قدمه بمهنية رفيعة، فهو لم يَنزِع فى أى يوم إلى أى أيديولوجية متعصبة، إلا حب الوطن، فهو أيديولوجيته، ومنهجه، ورؤيته التى استعان بها على تقييم الأحداث، وأبدى رأيه فيها، فحب الوطن بوصلته وأيديولوجيته الدائمة.
أما نحن الصحفيون، خاصة فى “الأهرام”، فقد ملكنا ابنا واستأذا، وعبر عنا، وكانت ترجمته دقيقة لمهنية مدرسة “الأهرام” العريقة، التى تَنزِع إلى المعلوماتية والدقة، وتهدف إلى المعرفة، وإنارة الناس، وصنع الوعى الصحى، وتَملك قداسة الحقيقة، بقصة مثيرة، وجاذبة للعقل، والوجدان، رغم أنها لم تسع يوما إلى الإثارة، أو تمجيد الشخصية، وبرغم أن صاحبها ملك، عبر تاريخه المهنى، إتقان فن الحكى والقص، الذى عُرف عنه أكثر من غيره، لكن مهنته كانت تغلبه، وأتته النجومية والشهرة، رغم أنه لم يسع إليها، والذين يعرفونه يدركون أنه قد كان يَمْقُتها، لكنها لاحقته، ولم يكتب قصته حتى يوم الرحيل، رغم أنها أكثر القصص إثارة للشغف العام، والبحث عن النميمة أكثر من الحقيقة، لكنه مكرم محمد أحمد، المميز و”الأهرامى” العريق.
رحل الأستاذ مكرم وهو مبعث فخرنا، واحترامنا، وهو نبض، بل ضمير، لأنه عبر عن مهنة الصحافة كما نحب، ونتطلع، وعن الوطنية المصرية، بل عن عروبتنا، بلا تعصب، وجَذَّر قيما مهنية وإنسانية ستعيش عبر العصور ملهمة للأجيال الحالية والقادمة.
إن مدرسة مكرم محمد أحمد ستظل باقية، لأنها أصيلة، وتجذرت على أرض صلبة، ونشرها عبر دوره النقابى المميز فى كل المؤسسات، وقد ظل الأستاذ متوسطا حسابيا تجتمع حوله كل أطياف الساسة، والسياسة، والمدارس المهنية المتنوعة، التى شكلت طبيعة، وقوة، الصحافة فى مصر، فى نصف القرن الأخير.