
أسامة سرايا
خطف أذهان، واهتمامات عالمنا، عددُ من القمم المتتابعة، وجها لوجه، وكأنها ظاهرة جديدة، بعد عامين من الاجتماعات، التى اقتصرت على الوسائط الإلكترونية، جراء جائحة “كورونا”، وتعلقت بالقضايا المباشرة، ومعاناة، وهموم الناس، عبر الكرة الأرضية، ( ٨ مليارات نسمة)، حيث يتطلعون إلى عالم جديد، يسوده التعاون، وتقل فيه ظواهر التناحر، والصراعات، والحروب بأشكالها المتنوعة، والمختلفة، من ساخنة إلى باردة، أو اقتصادية، أو حتى مائية، كما تطل على منطقتنا بثقلها، ومخاوفها على حياة الشعوب، ومستقبلها، خاصة فى وادى النيل، الذى ظل، منذ بدء الخليقة ، فى وفرة من المياه، لأنه وادٍ غنى، يكفى كل أهله، وسكانه، لكن مطامع السياسيين (الشعبويين)، والقوى الكبرى، غرست لدى البعض، من أصحاب العقول الصغيرة، مطامع تحقيق الهيمنة على مورد طبيعى- جعله الخالق لكل أصحابه، بما يكفى احتياجاتهم- ليساوم عليه، ويقف وادى النيل فى شرنقة ضيقة، متطلعا إلى أن يخرج من هذه الأزمة، التى إذا استمرت ضاغطة على شعوبها فإنها ستنفجر بما لا يُحمد عقباه، سواء لدول المنبع، أو المصب معا، أو لمنطقتهما، أو لحوض البحر الأحمر، أو الشرق والقرن الإفريقى كله.
لقد شهدنا اجتماعا تشاوريا،غير عادى، للجامعة العربية، عُقد فى قطر لمناقشة هذه الأزمة، بطلب من دولتى المصب (مصر والسودان)، واللتين تنتظران، أو تتطلعان إلى حل عادل مع دولة المنبع (إثيوبيا)، ولا تنزلق علاقاتها إلى الصراعات العسكرية المخيفة، وجاء هذا الاجتماع، من ناحية الشكل، مميزا، لأنه عُقد فى دولة عربية كان بينها وبين مصر لسنوات نوع من القطيعة، نتمنى ألا تعود مرة أخرى، لأننا جميعا نتطلع إلى علاقات “عربية- عربية” يسودها الود، والاحترام، والتعاون.
لم يكن مؤتمر قطر (العربى) الأول من نوعه، فقد سبق للجامعة العربية أن أصدرت بيانا فى هذه القضية الحساسة، سواء (للعرب أو الأفارقة)، وما بينهما من أواصر، وتعاون مشترك، لم تكن نتائجه مبهرة، أو مؤثرة، فى هذا الصراع، الذى يحمل فى طياته مخاوف كبيرة، ليس على الشعوب المتأثرة فقط، ولكن على المنطقة كلها، والذى قد يحتدم فجأة، والعالم يتفرج، أو لا يتصور مخاوفه، ولكنها، على كل حال، كانت خطوة متقدمة من هذه المؤسسة العربية، التى استشعرت الخطر، واعتبرت أزمة المياه، وحقوق دولتى المصب (مصر والسودان)- واللتين تمثل لهما المياه، والنيل، قضية وجودية (حياة أو موت)- تمس الأمن القومى العربى، وطالبت مجلس الأمن الدولى بالتدخل للحل، أو التوسط، أو الحسم، فى هذه القضية الحساسة، والخطيرة، التى طالت مفاوضتها منذ نحو ١٠ سنوات حتى الآن..
إن تدخل جامعة الدول العربية لم يحمل بشارات كثيرة بقدر ما يحمل أولا ”عريضة” مستقبلية، مفادها أن يكون التدخل العربى، سواء لدى المنظمة الدولية، والأمم المتحدة، أو لدى دول القرن الإفريقى، وإثيوبيا خاصة، ذى رسالة قوية، لأن دول الخليج العربى هى صاحبة رءوس الأموال الضخمة، التى تعمل مع شركات، ودول كبرى، فى إثيوبيا، لبناء السدود، والاستفادة من الأمطار الغزيرة بها، ولعل العيون العربية المُرتقِبة لم تكن بعيدة عن القمم المتتابعة، التى حدثت بأوروبا، فى التحرك الأول للرئيس الأمريكى (بايدن)، حيث عقد 3 اجتماعات متتابعة فى مونوريل ببريطانيا مع الدول السبع الكبرى، وفى بروكسل مع حلف الناتو، ثم لقائه الأخير بجنيف مع بوتين.
لقد انتظر العالم من هذه القمم حلحلة مشكلات متعددة، مرتبطة بها، خاصة فى منطقتنا، حيث هناك أزمة ليبيا، التى مازالت تنتظر مؤتمرا دوليا، وتخفيف حدة الصراعات بين القوى المتصارعة هناك، سواء كانت أوروبية (فرنسا، وإيطاليا، وتركيا)، أو روسيا، أو أمريكا، بحثا عن حل لمشكلات شعب شرده “الناتو”، بعد سقوط الحكومة هناك، ولم يجد حلا حتى الآن، كما أن هناك أزمة أخرى، وهى الشعب السورى الشقيق، الذى تهدمت بلاده، ومدنه، وهاجر نصف سكانه، ، بالإضافة إلى أزمة اليمن، والحرب المشتعلة بها، بل هناك حكومة فى لبنان تنتظر حلا، أو اتفاقا، فى جنيف، على السلاح النووى الإيرانى.
أعتقد أن العالم قد يكون فى حاجة ماسة إلى هذه القمم، لمواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، الناجمة عن أزمة فيروس “كورونا”، والذى قد يكون بحث عن حلول لعودة الحياة الطبيعية، لكن شعوب منطقتنا العربية- وقد مزقتها الصراعات، والحروب، ما بعد الربيع العربى، والتدخلات الخارجية- تنتظر ليس عودة الحياة الطبيعية فقط، ولكن عودة الحياة نفسها بلا ألم، وصراعات، أو حروب، حتى مشكلتنا المائية فى إفريقيا، وفى وادى النيل، أصبح لها بُعد دولى، فى انتظار لحسم صراعات الشرق والغرب، بل انتظار لقاءات بايدن المقبلة مع الصين، فى صراعاتهما من أجل أى اقتصاد يسود، أو يتقدم فى هذا العالم..
كما أعتقد أنه إذا كان العالم يبحث عن الاستقرار الإستراتيجى، وعلاقات مستقرة، وقابلة النمو، كما حدث بين روسيا وأمريكا أخيرا، حيث استطاع الطرفان وضع حد لصراعاتهما، وعودة السفراء، وإذا كنت أتوقع للعالم اتفاقا أمريكيا- صينيا، وأن علاقاتهما ستكون فى حدود إمكاناتهما الضخمة- فعلينا نحن، إقليميا، سواء عرب أو أفارقة، أن نبحث عن أنفسنا فى هذا الصراع الدامى، وأن تكون لنا سياستنا الخاصة، وتعاوننا الإقليمى، ولا ننتظر من هو صاحب الرأى العالى، لنكون مساهمين فى صنع العالم الجديد، فقد كشفت القمم عن أن تهديد روسيا لا يُزعج أمريكا، لكنه يتسبب فى حالة فوضى، وهم يريدون أن يتجنبوها، لكى يتفرغوا لتهديدات بكين، فهى الوحيدة ذات القوة الاقتصادية، والدبلوماسية، والعسكرية، والتكنولوجية، التى قد تهدد المنظومة الدولية المستقرة، من وجهة نظر الأوروبيين والأمريكيين، ونحن فى القرن الإفريقى- وهذه رسالة إلى إثيوبيا- علينا أن نتعاون معا، وألا نكون مدفوعين لأن نكون نقاطا للصراعات الأمريكية- الصينية..