
أسامة سرايا
تمر اليوم ثمانى سنوات على أغلى يوم، بل الأخلد، فى تاريخ مصر، الدولة الجديدة، التى بُعثت من روح التاريخ، متخلصة من الاستعمار، والتدخلات الخارجية، منذ أن تحررت، وكافحت، فى القرنين الماضيين، فى سعيها لإقامة دولة حديثة للمصريين، الذين مروا بثورات عديدة، للتحرر، وقيام الدولة، ولم تجتمع كل المعانى، التى كافحنا من أجلها، نحن المصريين، فى حدث واحد، مثلما اجتمعت فى هذا الحدث (٣٠ يونيو ٢٠١٣)، فقد كان لكل حدث بُعد مختلف: ثورة للتحرير من المماليك، وقيام دولة ملكية لمدة ١٥٠ عاما، وثورات للتخلص من الاستعمار التركى، ثم ١٩١٩ للتحرر من الإنجليز، ثم ثورة يوليو ١٩٥٢، التى أكملت التحرر، وأعلنت الجمهورية، ثم سرعان ما وقعت مصر فريسة للحروب، وعودة الاستعمار، واحتلال أجزاء من أراضينا، وقد قامت الحروب، ولم تتوقف لمدة ٥ عقود من تاريخ قيام “الجمهورية” فى مصر، وتخلصنا من كل المعوقات، وحاولنا بناء دولة بهدوء، وسط الصراعات، والتهديدات، وبإمكانات، وقدرات محدودة، وبعد حروب متعددة، وتكلفة باهظة، ولكن كانت هناك هجمة استعمارية تاريخية جديدة، أو متجددة، ليعود المستعمر مع العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين للدولة المصرية،
لكن لا يعنى ذلك أن نُسلم مقاليدنا للقوى المحيطة بنا: (إسرائيل، أو تركيا، أو إيران، أو القوى الغربية، أو أى قوة طامحة فى منطقتنا من الأوروبيين، وشركاء الإقليم).
لقد انطلق الربيع العربى، أو ما سُمى ذلك، ووقعنا فى احتلال خارجى بأيدى ميليشيا وجماعة أطلقت على نفسها “الإخوان المسلمون”، التى عاشت بين ظهرانينا وهى لا تنتمى إلينا، ولا تؤمن بالدولة، فقد كانت “قوة احتلال” للوطن، كما كتب الشاعر العراقى المبدع سعدى يوسف، الذى وُلد فى عام ١٩٣٤، ورحل عن دنيانا فى هذا الشهر(١٢ يونيو ٢٠٢١)، والذى له بصيرة أن يرى ما لا يراه غيره، وأن يتخلص من انتهازية الأدباء، حيث كتب: ” الدجاج، وحده، سيقول: ربيع عربى.. هل خلت الساحة من طفل؟.. أعنى هل خلت الساحة من شخص يقول الحق صُراحا؟. أى ربيع هذا؟. ومن القصيدة أيضا: أحسنتْ مصرُ صنعا، إلى أخره حتى لا تتلقّى الحقيقةَ بالقنابل..معنى الربيع العربيّ لم أجد أخلص من سعدى يوسف حتى أعيد قراءته من جديد، لأنه عبر عنى، وعن كثير من المصريين والعرب فى قصيدته “العواصم تتداعى”، ولأن سعدى كان صادقا، بل ملهما، فلم يجد فروقا جوهرية بين العواصم العربية: كلما جئت واحدة من عواصمنا العربية صليت … ها أنت ذى!..حتى يصل إلى قوله: ولتكونى حلب، لتكونى المعرة، والقاهرة، لتكونى الرباط، دمشق، طرابلس الغرب، والقيروان
عندما نقرأ سعدى يوسف سنقول إن الأدب والشعر لم يموتا فى عالمنا بفعل الثورات، والاضطرابات، وإنما البعض مات، واستسلم، ولكن يظل هناك البريق، واللمعان، وعبر عنه هذا الضمير، الذى سافر، وعاش فى المنفى (لندن)، ولم يمنعه ما وقع عليه من ظلم، واضطهاد، أن يقف منددا بالاحتلال الأمريكى للعراق، وقاد مسيرات حاشدة فى لندن احتجاجا على الحرب.
سعدى شاعر عرف السجن، والمنفى، والغربة، وشهد حروبا، لكنه لم يقع أبدا فريسة الاغتراب والأوهام، فقد عرف أن احتلال العراق يعنى احتلال سوريا، والشام، ثم سقوط مصر أمام هذه القوى، التى تخطط لتلك الأهداف، فانطلق شعره من يومها محذرا، ولعلنا نقف أمام قصيدته “عوامة النيل”، التى صدرت عام 2005، لنتذكر ما تواجهه مصر الآن من هجمة فى أعالى النيل من دول المنابع، وهى الهجمة الثانية فى هذا القرن، التى تواجهها.
الدولة المصرية الحديثة، التى قامت منذ ٨ سنوات، مجددة نفسها، ببناء متكامل، وروح عفية، وعفيفة، وجيش حديث، ومنظم، وشعب واعٍ، يعرف، ويعى، ولا يقع فريسة الأوهام، أو مشاريع الإسلام السياسى، فقد اكتشف الشعب المصرى منذ ذلك التاريخ أن الإسلام السياسى يصل إلى المنطقة العربية كقنبلة فراغية، جعلت السنى منه، والشيعى، والإخوان، كفصيل آخر، أنهم كيانات، وقضايا، مجرد مشاعات فارغة، يستثمر فيها الفاعلون من خارج العالم العربى، الذى وصل فيه الصراع إلى ذروته بوصول “الإخوان المسلمون”، أكبر الجماعات الإسلامية، وأخطرها، إلى السلطة فى عام ٢٠١١ .
لحظة فارقة فى عمر الصراع بين الدولة والدين السياسى، اخترقت الوعى الجمعى للمصريين، واستطاعت أن تُحدث فصلا وجدانيا بين الدولة وشعبها، وكان وعى المصريين أكبر، وهذا أعطى المكانة الرفيعة ليوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣، حيث لم يقبل المصريون الاحتلال بالوكالة، ولم يقبلوا تغيير الهوية المصرية.
تخيلوا أى مصير كانت مصر ذاهبة إليه تحت قيادة هذا الفصيل المغيب، والغائب عن الوعى، وغير المدرك لطبيعته المصرية، أو العربية؟.. تخيلوا أن يشتت مصر جيشا، وشعبا، لتتاح له إحكام قبضته على مصر.. لقد كنا نتحدث الآن عن ممر للإسلام السياسى من إيران، وتركيا، عبر العراق، وسوريا، وغزة إلى قلب العالم العربى فى مصر، بموقعها، وسكانها، ومنها نحو ليبيا، والمغرب، والجزائر.. تخيلوا، حينها، ماذا سيكون واقع الخليج العربى؟!.. تخيلوا، حينها، الواقع؟.. أن الإسلام السياسى لم يفرغ مدنا، ودولا من معطيات الصحة والسيادة فقط، بل وصل إلى امتهان القضايا الكبرى للعرب، فقد كانت عروض المهانة تنتقل من عاصمة إلى أخرى فى صورة هزيلة، لا تليق بنا، كعرب أو مصريين، كما لا تليق بالإنسان المعاصر فى القرن الحادى والعشرين..
أردت فى هذا المقال أن أُحيى ذكرى يوم خالد فى تاريخنا المعاصر، وأن أترحم على شاعر فذ رحل هذا الشهر، لكنه ترك ميراثا من الأعمال للخلود، وفكرا للأدباء، والشعراء، والقراء، لعلهم جميعا يتأسّون به، ويتعلمون منه.. رحم الله الشاعر سعدى يوسف.