مشهد الانسحاب

الانسحاب من غزة والمستعمرات الإسرائيلية فيها, هو أول حدث تاريخي, بالنسبة للقضية الفلسطينية, ويجب ألا يكون الأخير, وهو نقطة البداية, علي طريق تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالحقيقة أن انسحاب قوات الاحتلال من غزة وشمال الضفة الغربية, وسحب المستعمرين وتفكيك25 مستعمرة, يعد حدثا شبه مستحيل خصوصا أن الذي قاده هو آرييل شارون رئيس الوزراء, زعيم المستوطنين سابقا.
وكما يمثل الانسحاب انتصارا للفلسطينيين والعرب, فإنه في الوقت نفسه انتصار للإسرائيليين أنفسهم الذين تغلبوا علي نزواتهم وعدوانيتهم وسلموا بأن للاستقرار الإقليمي متطلبات وثمنا يجب دفعه. ويجب هنا أن نشير إلي دور مصر ورئيسها حسني مبارك ورعايتها وجهودها المستمرة للحفاظ علي قضية الفلسطينيين ومستقبل دولتهم حية ومستمرة ودائمة.
وهو يوم من أيام الشرق الأوسط, ينبغي أن يتكرر بالاعتراف الكامل بحقوق الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية, وبالتعايش في سلام وأمن بين الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب.
إن الانسحاب من غزة فرصة للجميع..
أولا للفلسطينيين, لكي يدركوا أنهم في الطريق إلي إقامة دولتهم المستقلة, فيحافظوا علي وحدتهم, ولا يتفرقوا أو تدب بينهم الصراعات, خاصة أن القطاع مليء بالسلاح, وأنهم في حالة من حالات اختبار الإرادات بين الفصائل, وحتي الصراع علي السلطة والطموح بين المتنافسين يجب ألا يظهر لأن التاريخ سيحاسب الجميع, فوحدة الفلسطينيين هي التي أوصلتهم إلي لحظة الانتصار الراهنة, إلي جانب تماسكهم ومقاومتهم.
وثانيا: هو اختبار لإسرائيل بأن تواصل انسحابها, وألا تحاول مرة أخري محاصرة الفلسطينيين في غزة, والسيطرة علي المعابر والمطار والميناء والتي يجب أن تسلمها جميعا إلي الفلسطينيين, ومثلما انسحبت من الممر الحدودي بين مصر وقطاع غزة وسلمته إلي المصريين والفلسطينيين, فإنه بات عليها أن تربط القطاع بالضفة الغربية وأن تسمح بحرية الحركة بينهما, للحفاظ علي وحدة الأراضي الفلسطينية, ومستقبل الدولة المرتقبة.
والأهم هو أن تنتقل فورا إلي المرحلة الثانية, أي إلي التفاوض السياسي حول الضفة والقدس الشرقية, وما تبقي من أوضاع يترتب عليها الحل النهائي, فالانسحاب من غزة يجب أن يكون له أفق سياسي, لتعود إلي المنطقة آمال السلام والانتعاش.
ولاشك أن المجتمعين الدولي والعربي تقع عليهما واجبات كبري في هذه اللحظة الحساسة, فعلي الجميع الإسراع بتقوية هذه الخطوة المهمة لمستقبل المنطقة, بتقديم الدعم المالي والاقتصادي والفني, لأن غزة والأراضي الفلسطينية تعاني من مخاطر الانهيار الاقتصادي والإفلاس المجتمعي, كما أن المجتمع المدني الفلسطيني متشوق للعودة إلي الحياة العادية, وهو يملك كل الإمكانات الاقتصادية للنهوض والبناء.
والصورة الراهنة تستدعي تحركا عربيا ودوليا فعالا لكي تدور عجلة الاقتصاد الفلسطيني, ويشعر الفلسطينيون بثمار السلام, وفي هذا الصدد يجب ألا نتركهم فريسة للمخاوف أو تحت رحمة التطرف ومشروعه الخطر علي فلسطين والمنطقة كلها.
وإذا كانت لحظة الانسحاب الإسرائيلي وتفكيك المستعمرات هي الأولي بالنسبة للفلسطينيين, فإنها ليست الأولي في المنطقة, إذ أن إسرائيل قد انسحبت من الأراضي المصرية وفككت مستعمرة ياميت في سيناء, وانسحبت من جنوب لبنان, والآن وبعد أن بدأت الحركة علي الصعيد الفلسطيني, يجب أن يتفاعل معها الجميع, لأن هناك فرصة نادرة لإنهاء أطول وأخطر صراع يهدد المنطقة, ويؤثر علي مستقبلها, والذي امتدت تأثيراته علي الاستقرار والسلم العالميين, في ظل الحرب العالمية علي الإرهاب.
والحقيقة أن وضع حد لهذا الصراع, وإيجاد مسار سياسي, ستكون له تأثيرات كبيرة في قضايا مختلفة, من أهمها تجفيف منابع الإرهاب, ودخول منطقة الشرق الأوسط في متغيرات إيجابية عديدة.
ولو أدركنا مكانة هذه المنطقة, لموقعها وثرواتها المادية والثقافية, فسوف يتكاتف الجميع لجعل الانسحاب من غزة خطوة أساسية, وطريقا مستحقا لقيام الدولة الفلسطينية, التي أصبح وجودها مهما, ليس للشعوب العربية وحدها, وإنما لإسرائيل وأمريكا والمجتمع الدولي كله.
وأدراكنا للمخاطر الناجمة عن تلك الخطوة التاريخية المهمة يجب ألا ينسينا فرحة الحدث, والعكس صحيح.