
ما حدث فى كابول، والانهيار السريع لأفغانستان، والصور المتتابعة، والمتواترة، من هناك، شغل العالم.. كلُ وجد ما يُشغله، أو ضالته، فمن حاولوا التشهير بالولايات المتحدة وجدوا مآربهم، ومن يتحدثون عن النصر، والهزيمة، وجدوا طريقا للتحليل، ومنفذا للحديث، والتقول، حتى المُغرمون بالدراما، والمسلسلات، وجدوا فى صور الأمريكيين – وهم يهربون بسرعة فى طائراتهم، ويتركون خلفهم كل الأفغان الذين تحالفوا معهم، أو ساعدوهم- مآربهم، وقصصهم المثيرة، لأن المسرح الأفغانى كان واسعا، وفضفاضا، ولم يكشف بعد عن أسراره، أو ألغازه، حتى أصحاب نظريات المؤامرة الكثيرة، فالكل هناك يظل موضع اختبار لما سوف يحدث.. . لكن ما يهمنا، أو يخصنا، نحن أهل الشرق، أو أصحاب الدين الإسلامى، وتحديدا، كان، ولايزال، أن يكون أول اهتماماتنا، وتركيزنا، هو أفغانستان، والخوف من انهيارها، وهو حادث فعلا، رغم كل التطمينات المتوالية من الحركة الطالبانية الحاكمة هناك، أو، لنكن أكثر دقة، المسيطرة على العاصمة، ومعظم الولايات الأفغانية، ولن تستطيع، رغم ما أبدته من حكمة، أو تعقل، فإذا حكمت فستكون الأسطورة الدموية القادمة للعالم كله، والمخيفة كذلك، ولن تستطيع أن تقمع الشعب كله إلا بإخافته، والإعدامات بلا محاكم، وحكمه بالحديد، والنار، والتربص بالأسر الأفغانية، والأقاليم، واصطياد كل من قاوم هذا التنظيم القبلى، قبل أن يكون دينيا، والذى يغطى تعصباته بالإسلام..
ببساطة، الانسحاب الأمريكى من كابول، أو أفغانستان، قبل أيام من ذكرى (١١ سبتمبر ٢٠٠١، وسقوط برجى التجارة)، والذى كان السبب المباشر للغزو الأمريكى، والسيطرة على أفغانستان، للقبض على القاعدة، وطالبان- ستكون تأثيراته الجديدة، أو المتجددة، شبيهة بما حدث منذ ٢٠ عاما، وستكون له أهمية إقليمية، وعالمية، كبري. ما تريد أن تقوله الولايات المتحدة للتنظيمات الإرهابية فى منطقتنا، والتى أخذت من هذا الحادث المُدوِى، تداعياته، وبالأسلوب الذى تم به المظهر الدعائى المخيف- أنهم عائدون بها، واطمأنت الجماعات الإخوانية، وداعش، والقاعدة، المنتشرة فى بلاد العرب، إلى الصورة السطحية لما حدث، ولمجلس الدعوة، الذى عُقد فى مقر الرئيس الأفغانى الهارب، بسور قرآنية (النصر والفتح)، والذى كان يصاحب الطائرات الأمريكية وهى تهرب..
فكل ذلك أرسل لهذه التنظيمات المنتشرة فى ربوع بلادنا، الموجودة حولنا، رسالة، فحواها أنكم تستطيعون أن تعودوا، وتقودوا من جديد، سواء كانت مقصودة، أو غير ذلك، وأن ما فشلتم فيه فى الماضى، بعد أحداث ربيع ٢٠١١، تستطيعون تعويضه، متناسين مكونا مهما، أن طالبان، رغم أنها تأخذ فلسفة دينية متشددة، أو فاشية، هم طلاب الشيخ المودودى، المؤدلجون الأصوليون، لكنهم، فى الوقت نفسه، مكون قبلى أفغاني- باكستانى ينتمى إلى إقليم البشتون، وصل للحكم، وهو أغلبية عرقية تتواصل بالدين، وليس تنظيما دينيا فقط، فالصراعات فى أفغانستان لم تنتهِ، ولن تنتهى، وتغلغل طالبان فى هذا البلد، كبديل لأمراء الحرب المتتابعين، لا يعنى أن الصراعات، أو الحروب الأهلية، انتهت، فنحن أمام بلد الملاحة فى تنظيماته الداخلية معقدة للغاية..
لا شك أن طالبان ليست هى الفصل الأخير، أو الطبعة القبلية المفضلة لدى الأفغان، ولن تكون، ولهواة التحليل، والبحث، والتقصى، فإن هذا الفصيل ليس أول مرة يحكم، فله فى الحكم خمس سنوات سابقة، كانت كلها دماء، ودموية، فهو الفصيل، الذى استولى على أفغانستان بعد حروب طاحنة، خاضها هذا البلد، صعب المراس، ضد الاتحاد السوفيتى فى كابول (1979/1989 ثم انتصار اليساريين هناك حتى عام ١٩٩٢، كما أنه ليس التنظيم الذى نستطيع أن يقول إنه انتصر، فهو تنظيم كامن، أو موازٍ، انتظر حتى وصل الأمريكيون، ثم استولوا على البلاد، وأعتقد أن بهاليل التيارات الإسلامية، فى مجتمعاتنا، يجب أن يتمهلوا، وألا يرسلوا مقارنات لما يحدث هناك فى آسيا لمجتمعاتنا العربية..
أتمنى أن تسارع مجتمعاتنا العربية، وتشرح أبعاد التشدد الطالبانى، بأنه ليس من تربة إسلامية، أو عربية، وأنه لا يعبر عنا، وأن المشهد السابق لطالبان، أو المسلمين الأفغان، بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، واستيراد اللباس الأفغانى، والثقافة الأفغانية، على أنها ثقافة الإسلام- كان حالة من حالات انعدام الوزن، والضعف، والترهل، فى مجتمعاتنا، والانسياق وراء أى نزعات قادمة من خارج الحدود، فمجتمعاتنا تتغير، وتتطور، وتتمسك بإسلامها السمح، والمعتدل، وعلى مجتمعاتنا العربية التحوط مما تحمله الأيام القادمة، فإن التحالفات التى أبرمتها حكومة أوباما مع الأصولية العربية، ما بعد ٢٠١١، من الممكن أن تتكرر، فمصادر التمويل، أو مراكز الإرهاب، مازالت موجودة..
لقد سلم الأمريكيون طهران إلى الخومينى، كما سلموا أفغانستان، بكل تناقضاتها، لطالبان، وكانوا يخططون لتسليم البلدان العربية إلى الإخوان المسلمين، ونحن أمام حالة يجب دراستها، وأن يكون هناك حوار دائم مع الشعب حول مستقبلها، وحول ما تخططه هذه الجماعات المتطرفة للسيطرة السياسية، عبر بناء تنظيمات، وميليشيات، ومنظمات أمنية، موازية للجيوش الوطنية، وبناء هياكل، ومؤسسات سياسية بالأقاليم، والمحافظات، تتعامل مع الناس بأساليب الفساد، والرشوة، وإسقاط هيبة الحكومات، ولن يكون الحل لمواجهتها إقامة ديمقراطيات شكلية، ولو كانت بغطاء دولى، فالجماعات الإرهابية يجب أن يسقط عنها أى غطاء، أو كفيل يمكنه الدفاع عنها، ونحن لا يعنينا الفشل الأمريكى، فهذا يخصهم، ولكن ما يخصنا أننا يجب أن نبنى بلادنا، ومؤسساتنا، ونحن قادرون، فالجيوش لا يبنيها إلا الوطنيون، والميليشيات الإرهابية يبنيها الإرهابيون..
يجب على العرب، والمسلمين، استمرار تماسكهم، واستئصالهم الجماعات الإرهابية فى بلادهم،. فما حدث فى أفغانستان رسالة قوية إلى مجتمعاتنا، لاستمرار البناء المؤسسى، وتقوية الجيوش، والمؤسسات الأمنية، وليس العكس، كما يتصور بهاليل الإخوان فى أفغانستان، وتركها لمصير مخيف، لن يقبله الشعب الأفغاني.