
يشغل الكثيرون أنفسهم بموقع الولايات المتحدة الأمريكية، وصراعها القادم مع الصين، وأيهما ستكون القوة الكبرى، وصاحبه التأثير الأكبر؟! ومع اقتناعى بأن العِقدين الحالى، والمقبل، لايزالان أمريكيين بأكملهما، رغم ما يبدو من اهتزاز فى هذا الدور، أو تصارع حوله، فإن أمريكا لم تعد القوة الوحيدة، ولكنها تنازلت عن هذا الدور طوعا، لعدم رغبتها فى تحمل تكاليف هذه المكانة على مختلف المسارح العالمية، وطالبت الجميع بسداد أدوارهم، واتجهت مباشرة لتقليل نفوذ الصين عالميا، فلم يعد فى العلاقات الدولية شيء مجانا، والمتغيرات متسارعة، سواء من القوى الكبرى، أو القوى الإقليمية، التى ستفرض وصايتها، وانسحبت منها جزئيا، وقد كانت الصورة واضحة فى بانوراما العالم (الأمم المتحدة- الدورة ٧٦ – سبتمبر2021). ولعلنا، نحن المصريين، نشعر بفخر، واعتزاز، لأن صوت مصر بلدنا، وأدوارها، ومكانتها واضحة، بل أصبحت معبرا، ونادرا، بل ناطقا: ماذا نعمل؟.. وكيف نخطط لمستقبل بلادنا، وإقليمنا، والعالم من حولنا؟.. وأين مكانتنا فى هذا الصراع، الذى لن يتوقف؟..
ويرجع ذلك إلى التحسن الكبير، الذى طرأ على مكانة مصر الداخلية، وقوة اقتصادها، وتماسكها المجتمعى، ووحدة رؤاها، وأهدافها، بدقة، واستقامة، وصدق. ولا شك أن الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والتطورات التى تحدث فى مصر داخليا، من مشروعات عملاقة، وتحسن فى الأداء، وتغيير بيئى، واقتصادى، واجتماعى، وارتفاع فى مستويات المعيشة، والحياة بصفة عامة، من صحة، وتعليم، وخدمات، وسياسات داخلية متجانسة، لها رؤى، وأبعاد محددة، ومختلفة- عكست قدرتنا على التحرك على الصعيدين الإقليمى، والعالمي. ومن حُسن طالع منطقتنا، وعالمنا العربى بمشكلاته المعقدة، بزوغ صوت مصر، وقوة رئيسها عبدالفتاح السيسى، فى تلك اللحظة التاريخية الدقيقة، ليكون صوتها من قلب الأمم المتحدة، على مدى السنوات السبع الماضية، مترجما لرؤاها ، ودفاعها عن أمتها، وقضاياها، فاحتلت كل القضايا العربية مكانتها، وهذا الصوت المسموع من ٢٠١٤-٢٠٢١, جعلنا نشعر بالارتياح لأدوارنا، ومكانتنا الإقليمية، والعالمية، وكذلك لأننا وضعنا القضية الفلسطينية، ومظلومية شعبها، أمام المجتمع الدولى، لتكون على رأس اهتمامات القوى الفاعلة فى المجتمع الدولى، فحل الدولتين، تقريبا، جاء على لسان الجميع، من بايدن إلى كل رؤساء المجموعات، والدول، بل إن قضية القدس الشرقية احتلت مكانها المحوري. وهكذا، تجسدت مبادئ مصر، وقيمها، فى سياستها، وقدرتها على جعل القضية الفلسطينية فى المقدمة، لأن الصراع العربي- الإسرائيلى مازال جوهر عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، وقد تحرك هذا الملف قبل أن تذهب مصر إلى الأمم المتحدة، فى قمم متتابعة، مع إسرائيل، والفلسطينيين، والأوروبيين. كما احتلت قضية ليبيا مكانتها فى الدور المصرى الفاعل، منذ لحظة رسم خريطة الطريق للحل، وتحويل المسار، والتلويح بـالخط الأحمر، وها هى ليبيا تقترب من إجراء الانتخابات فى أقل من ١٠٠ يوم (موعد الانتخابات ٢٤ ديسمبر المقبل)، وبهذا ستكون ليبيا على مسار جديد من الاستقرار، والتنمية، والحل. ومازالت القضية السورية تشغلنا، ولاتزال متمثلة فى ضرورة بناء سوريا الديمقراطية، ذات السيادة على كامل ترابها، كما كانت أعيننا فى الأمم المتحدة على طرح قضية المياه، الخاصة بالسد الإثيوبى، الذى يهدد مصر والسودان، وقد كشفت الدراسات الأخيرة لهذا السد عن العورات الفنية الخطيرة، التى تهدد جسمه، وعدم قدرته على الصمود لأكثر من ٢٠ عاما، على أكثر تقدير، وعدم تحمله كمية المياة المخزنة، أو المخطط لها، وأنه أُنشئ فى المكان الخاطئ تماما (منطقة فالق، وزلازل لا تتوقف)، ولعل مشاركة الأمم المتحدة، والمجتمع الدولى، فى هذه القضية الحيوية، لتكوين صورة ضرورية، وكاشفة لخطورة هذا السد – الذى يهدد باندلاع حروب، ومواجهات بين الشعوب فى الإقليم الإفريقى ككل- واضحة تماما أمام العالم بكل قواه، لتكون شاهدا حيا على كل التطورات، وما يحدث فى هذه المنطقة الحساسة من العالم (حوض نهر النيل، والقرن الإفريقي)، لأن الدولة الإثيوبية تلعب بالنار، قبل أن تهدد شعبها، حيث لم تستطع أن تحافظ على التجانس، والوحدة بين القوميات فيها، وانفجرت أديس أبابا داخليا، واندلعت الحروب بها، وبالتالى فهى لا ولن تستطيع الحفاظ على حقوق شعوب متشاطئة معها فى حوض نهر دولى، يمر، ويخدم حقوق ١١ دولة، وتحديدا النيل الأزرق، الذى يمر فى مصر والسودان، وينبع فى إثيوبيا، والخطورة الفنية، والإنسانية، انفجرت قبل أن يستطيع الإثيوبيون إكمال الملء الثانى فى فيضان هذا العام، وأصبحنا أمام خطر وجودى يهدد حياة ١٥٠ مليونا، لأن هناك حكاما، وشركات عالمية، ودولا تقامر بمصالح العالم، واستقراره، ونشير هنا إلى الشركات الإيطالية تحديدا.. وغيرها، التى تورطت فى عمل هندسى خطير، ومعيب، لا يرقى إلى الصمود، والاستمرار، بمعايير هندسية، وفنية، فقيرة، بل معدومة، ولا تعطى أى معامل أمان للجميع، وأعتقد أن النجاح فى طرح أزمة المياه بين مصر والسودان من جانب، وإثيوبيا من جانب آخر، أمام المجتمع الدولي- سيكون مقدمة إلى الطرح على أوسع نطاق فى محافل أخرى يهمها الاستقرار البيئى، وسلامة المجرى المائى، ومواجهة هذه الأحداث برؤية طويلة المدى، لا تنتظر حتى تقع الواقعة.
ولعل مصر، طوال تاريخها، لم تلجأ إلى الأمم المتحدة، والعالم إلا ٣ مرات (الجلاء البريطانى، وبعد احتلال أراضى ١٩٦٧ ، ثم أخيرا فى قضية المياه)، لما لها من أولوية قصوى فى مستقبل شعوبنا، بل مستقبل إفريقيا ككل. سوف تحتل قضية المياه الأولوية لتسبق قضية الإرهاب، التى لم تنته فى أحلامنا، خاصة بعد الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، وتسليم هذا البلد إلى فصيل واحد (طالبان)، وعدم الحل فيه سوف تتحمله أمريكا، والمجتمع الدولى، لأن الانسحاب الأمريكى لم يدرس التداعيات، التى ستؤثر فى الأقاليم المختلفة، وستظهر تباعا لكل دول المنطقة فى آسيا، وإفريقيا، وأوروبا.