
كان إنشاء المحكمة الدستورية العليا فى مصر عام ١٩٦٩ تطورا كبيرا للنظام القضائى، ولا نبالغ إذا قلنا للنظام الدستورى المصرى ككل، فقد أصبح هناك حارس للدستور أكثر منه حارسا للنظام القضائى ككل، وأصبحت لدينا محكمة تحرس الحقوق، والحريات، معا، وتنقى القوانين، وتخضعها للدستور، بل صوت، أو، للدقة، نبراس يَهتدى به القضاة، بل المشرعون، بأحكامه، فهى عين تراقب ما يخالف نصوص الدستور، أو خروجا عليه.
إننى من المقتنعين بأن المصريين عموما قادرون على خلق ديمقراطيتهم، وأساليبها، من واقعهم، وتنقية كل أخطائهم تدريجيا، وبلا ثقل، أو تقليد، من الخارج، مهما يكن بريقه، عبر خلقْ، وتنمية المؤسسات المصرية المختلفة، فهذه المؤسسات هى البنية الأساسية لنظامهم السياسى، والاقتصادى، والاجتماعى، الذى يتماشى مع المتغيرات الداخلية، ويحتكم للمعايير العالمية معا، كما أن هذه المؤسسات تعتبر سبيكة تحمى الوطن، وهى خالصة من التربة المصرية، بلا تقليد، أو عنف، أو سطحية، فنحن من البلاد الأصيلة، صاحبة الحضارات القديمة، ومن الشعوب القادرة، بحكم تاريخها، وأصالتها، والتى تؤمن فى داخلها، وبعمق، بالعدل، والشفافية، بلا ضغوط، أو تسلط ، وتلك من القيم الأصيلة، والمتجذرة للديمقراطية الحقيقية، بلا تدخل خارجى، أو تسلط إرهابى على قرارها، وليس بالشعبوية أو الديماجوجية، أو حكم الشوارع، والغوغائية، معا، أو تسلط الجماعات، أو إرهابها، حتى لو استخدمت أكثر الأدوات جماهيرية، وشغفا، لدى الناس، وهى الدين.. وعندما تعجز عن تحقيق هذا الهدف، لأى سبب، تُسلم مقاليد أمورها للحكم، عبر الأغلبية المباشرة، لمؤسساتها الكبرى، التى تحظى بالثقة، والاحترام، لدى الأغلبية من الشعب المصرى، وتختار نجومها منها، بل تختار القيادات عبرها، لأنها تربيهم، عبر هذه المؤسسات، للوطن ككل، فهذا هو المعترك الصحيح الذى تُصنع فيه السياسة، والقيادات، معا.
ولعلنا نتذكر، بعمق، عندما خرج الشعب فى ٢٠١٣ رافضا حكما جائرا فُرض عليه بسوط تنظيم دينى محكم، كان هو الذى يتحرك وحيدا فى الشوارع، حتى سّهلَ على الغرب أن يقول إنهم ديمقراطيون، لكن الشعب أدرك، بحسه التاريخى، أنهم ديكتاتوريون، متسلطون، وساعدتهم ظروف، ومناخ الاضطرابات، على الصعود إلى القمة، عبر الصناديق، وعندما احتدم الأمر، وشَعر الشعب بضرورة التغيير كان الملجأ، والملاذ، هو المؤسسات الكبرى، حتى يتمكن من استرداد نفسه، والعودة إلى أموره الطبيعية بعد ذلك، واختيار القيادات التى تصلح للقيادة، مثل رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذى أوكل إليه الشعب، والجماهير، والمؤسسات، الأمر، بعد أن خرجت الجماهير رافضة حكما ديكتاتوريا، وشعارات وهمية، تم صنعها بالدين، لتنطلى على العامة، وانطلت على البعض بعض الوقت، لكنها انكشفت سريعا، بعمق هذا الشعب المصرى، وقدرته، فكان الملاذ، والاختيار، أو الربان، المستشار عدلى منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذى قاد مصر فى المرحلة الانتقالية بجدارة، وهنا أدرك الشعب كيف أن بناء المؤسسات هو الجدار، وهو الحامى للوطن، فى لحظات الأزمات الدقيقة، والصعبة، التى تمر بالشعوب، وتؤثر فى مصيرها، ومجرى حياتها، وكان من القرارات الإصلاحية الكبرى، التى اتخذتها مصر، والرئيس عبد الناصر، بعد هزيمة ١٩٦٧، رفض الهزيمة، وبناء جيش حديث، قوى، تصدى للحرب، وأعاد الأرض، وتحديث الجمهورية عبر المؤسسات، وأصبح بعدها دستور ١٩٧١ هو أول الدساتير التى تضمنت نصوصا رقابية دستورية للقوانين، وأوكل أمر هذه الرقابة إلى محكمة خاصة سُميت «المحكمة الدستورية العليا»، التى حلت محل المحكمة العليا.
هذا التطور القانونى، والدستورى، والمؤسساتى، المهم، شهدنا بعد ذلك، فى السنوات الصعبة، تأثيره، وأهميته للبلاد، لحمايتها، وكان ذلك ملاذا للوطن نتذكره، الآن، بكثير من الاحترام، والتقدير.
هذه الإصلاحات، التى سبقت حرب ١٩٧٣، كانت وراء النصر فيها، وكانت إشارات إلى قوة الجمهورية، ومكانتها، على أساس قانونى، ودستورى محكم، وقوى، يعبر عن الشعب، ودرجة تطوره، وقدرته على إقرار، واختيار، قياداته، وتلك كانت من بوادر النصر فى المعركة العسكرية، واسترداد كرامة الوطن، وخطوات إصلاحية مهمة فى حكم مصر، وبالأمس القريب كان هناك قرار مهم مس شغاف المصريين ككل، عندما اختار الرئيس عبدالفتاح السيسى، المستشار بولس فهمى رئيسا للمحكمة الدستورية، وهو الرئيس التاسع عشر لهذه المحكمة العريقة، التى احتفت بيوبيلها الذهبى (٥٠ عاما على إنشائها)، والتى تعد الآن نموذجا للمحاكم الدستورية العليا العربية، والإفريقية، ومنها، يخرج لنا نجوم فى السياسة، مثل رئيس البرلمان، ورئيس مجلس الشورى، وهما نموذجان معبران للقادة الذين تفرزهم المؤسسات المصرية الكبرى، وأهمها القضاء المصرى العريق.
قرار المستشار بولس فهمى من القرارات السياسية، والقضائية، ذات العيار الثقيل، ومعبر عن المنظور القضائى المؤسسى فى مصر ككل، ووراءه إرادة معبرة، واحترام للمساواة بين كل المصريين، وإعلاء لقيمة المواطنة فى الوطن، ومن هنا فهمنا لماذا كانت الجماعة المتطرفة تعادى المحكمة الدستورية، لأنها كانت تريد أن تحكم البلد بلا مؤسسات قادرة، حتى يكون الشعب تحت رحمتها مباشرة هى وحدها، ولا تحميه أى مؤسسة، وهذا قمة الديكتاتورية، والفاشية، معا.
الإصلاحات المؤسسية، التى تشهدها مصر الآن، بناء صحيح للوطن، واحترام لكل المواطنين.